توفيق سلاّم
حجم الأزمة الداخلية، وتوسع رقعة الاختلافات بدأت تبرز بقوة، بين السياسيين الصهاينة، وحتى الأمنيين والعسكريين، وهذا يعني أن هناك هوة كبيرة، فهناك أزمة داخلية، وجبهة داخلية متصدعة وغير محصنة ومهترئة. لكن هذه الاختلافات حول الوسائل، وليست خلافات جوهرية، بالرغم من أن هناك أصواتًا داخل الكيان تقول، لا يمكن أن يكون هناك حل بالبندقية، ولا بد أن تكون للدبلوماسية حضور، وفاعلية لإنجاز صفقة التبادل وإنهاء الحرب.
هروب للأمام
نتنياهو يحاول الخروج من أزمته الداخلية إلى فضاءات خارجية، لكنه حتى الآن مازال منشغلاً في غزة تحت وهم الانتصار، الذي عجز في الوصول إليه، وعندما أدرك الآن استحالة أن يحقق شيئًا بالقوة، يحاول فرض لغة سياسية مختلفة، بالتنكر والمماطلة والهروب للأمام، وفرض شروط جديدة على حماس للقبول بها، كل ذلك مراوغة، لاستمرار الحرب، على الرغم من المأزق الذي يتخبط فيه، ويعتقد أن تصعيد المعركة أو توسعة رقعة الحرب في الضفة الغربية، ستمنحه انتصارًا، ليعيد شعبيته وتغطية فشله، للحفاظ على إئتلافه الحكومي واستمرار حياته السياسية، وهو الآن في انتظار ترامب الذي صرح تصريحًا خطيرًا قبل أيام، بأنه يرى أن "إسرائيل" دولة صغيرة ". وهذا يفسر حجم المخطط الصهيوني للسيطرة على الضفة، وفي هذا السياق أعلن جيش العدو عن عملية عسكرية واسعة هي الأكبر منذ عقدين، واجهتها فصائل المقاومة بتصد بطولي، ودعت إلى النفير العام، وحذرت من محاولة فرض واقع جديد، يهدف إلى إخضاع الضفة وضمِها، وصولاً إلى تهديد المقدسات الإسلامية، وعلى رأسها المسجد الأقصى المبارك، بدعم أمريكي غربي وصمت وتواطؤ عربي. فالمشهد في غزة منذ عشرة أشهر لم يحدث فيه أي تقدم في جولات المفاوضات لوقف الحرب، التي مازالت متعثرة، وأصبحت الآن مثارًا للمزايدة بين الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري
لاستثمارها في دعايتهما الانتخابية، يريد بايدن ومرشحة الحزب الديمقراطي كامالا هاريس، وحتى ترامب، تقديمها أمام الماراثون الانتخابي وأمام الجمهور والناخب الأمريكي والجماعة اليهودية، وأمام الجاليات العربية والمسلمة، في الانتخابات القادمة، بأن الإدارة الأمريكية، تحقق نجاحًا في تسوية هذا الملف بصفقة التبادل لإنهاء الحرب.
الضفة الخاصرة الأضعف
وهنا يطرح السؤال: لماذا الضفة الغربية في هذا التوقيت؟ والإجابة أن المحتل يعتبر الضفة الغربية هي الخاصرة والساحة الأضعف من الساحات المشتعلة في الجسد الفلسطيني. فالمقاومة في قطاع غزة وصلت إلى مرحلة من الندية في التعامل مع الإحتلال، ومنعه من إحراز أي من أهدافه، بالرغم من الدعم الأمريكي والأوروبي المهول، إلاّ أنه لم يستطع فرض معادلات جديدة على واقع الأرض، ولا تغيير قواعد الاشتباك، وهو يواجه أكثر من جبهة، ليس بمقدوره التعامل معها، وأهمها جبهة الشمال مع حزب الله، بالإضافة إلى الداخل الفلسطيني. فالمحتل يحاول إحراز مكاسب ميدانية، بتصعيد الحرب ضد الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية، لتكون موازية للحرب في قطاع غزة، وهي بالنسبة له غير منفصلة عن مخططاته لتفريغ الأرض من السكان، في مخيمات شمال الضفة التي تتعرض لقصف جوي بالطيران الحربي والمسيرات، بالتوازي مع تعزيزات عسكرية لمحاصرة المخيمات، وفرض حالة أمنية مشددة، فضلاً عن حملات المستوطنين وتسليحهم ضد أهالي الضفة تحت غطاء الجيش، كما يحدث في مخيم جنين، وطولكرم. وهناك تحضيرات واسعة للحرب، وقد شهد مخيم جنين قصف بالطيران الحربي وبالمسيرات، فالكيان يريد الدخول مع الفلسطينيين في الضفة في مواجهة مربع القوة المجردة، كما هو حاصل في غزة.
مخطط المحتل
الضفة الغربية تعاني منذ زمن طويل اعتداءات المستوطنين وقتل وتشريد ومصادرة الممتلكات، وحرمان الأهالي من المياه، وهناك ثلاثة اتجاهات يتعمد المحتل تنفيذها: الأول مصادرة أكبر قدر من الأراضي لانشاء المستوطنات، كما يحدث في جنين، وفي شمال الضفة الغربية بطولكرم ونابلس، وحرميش، وفي مجدولين. والاتجاه الثاني، منع الفلسطينيين من الحصول على المياه من الآبار والمياه الجوفية، فهو يعمل على مصادرة الأراضي وغلق الآبار، وتعطيش الضفة الغربية، كما يحصل في القدس، وبيت لحم والخليل. ومنذ شهور هناك شح وأزمة مياه في الضفة. والإتجاه الثالث يتمثل في عمليات القتل، واعتقال المواطنين والنشطاء، وحرق المنازل، وتشريد المزارعين. فهذه سياسة ممنهجة ومنظمة للاستيطان، في سياق مشروع ضم الضفة للكيان. ومنذ تشكيل حكومة نتنياهو، يعمل مثلث الإرهاب نتنياهو وبن غفير وسموتريتش، على وضع ما سموه بمخطط "الحسم والظم والترحيل"، لتوسيع مساحة "إسرائيل"، وهم الآن يدمجون مناطق لأخرى، بهندسة الضم، فقسموا الضفة إلى مربعات ومناطق، فظموا المنطقتين "أ" و "ب" إلى المنطقة "ج"، تحت شعار أنه "لا يوجد دولة بين البحر والنهر، إلا دولة إسرائيل". ويعتبرون أن الضفة هي مملكة "يهودا وسامرا"، التي ورد ذكرها في التوراة حسب زعمهم. لذلك يريد جيش الكيان أن يحسم أمر المخيمات، بحيث يسهل السيطرة على المدن، ومنع قيام انتفاضات جديدة، فقاموا بعملية ما تسمى "السهم الناري"، لمهاجمة المخيمات، وفصائل المقاومة، وإطلاق الشائعات، بأن عناصر المقاومة تتلقى الدعم عبر الحدود الأردنية، هذا بخلاف نعتها بالعناصر الإرهابية، لتبرير هجومه وحربه على مخيمات شمال الضفة، تحت ذريعة الأكاذيب، وتضخيم الشائعات، بأن هناك تسلل من الأردن، وهناك تهريب سلاح، وهناك بؤر ساخنة لشن عملياته الهجومية.
إحلال ديموغرافي
كان المحتل يخفي مشاريعه الاستيطانية في الضفة الغربية، فهذا الوزير المسعور، بن غفير يفضح المشروع الصهيوني، وهو يصرح بذلك ويقولها بشكل مباشر وعلنًا أمام وسائل الإعلام أنه يريد تهجير أهل الضفة، لأن الضفة الغربية، في روايتهم أرض يهودا وسامرا في التسمية اليهودية، وهي قلب وعمود الخيمة بالنسبة للمشروع الصهيوني.
بعد اتفاقية أوسلو كان هناك حوالى 93 ألف مستوطن، اليوم هناك أكثر من 100 ألف مستوطن، و 250 مستوطنة جديدة. هذا يكشف، أن هناك مشروعًا استيطانيًا للإحلال الديموغرافي، وهناك تزييف وكذب ونفاق على الفلسطينيين، تقودها الولايات المتحدة والكيان هذا أولاً، وثانيًا هناك مشروع تهجير واضح، وهذه خطوة ديموغرافية وسياسية، ستتسبب بمشكله للأردن كوطن بديل للفلسطينيين، وهذا ما يدركه الأردن تمامًا. بن غفير يحاول شيطنة الضفة الغربية، وخلط الأوراق والعبث بها. والدفع بالمستوطنين، تحت مخصصات ما يسمى "شباب التلال"، ليقوموا بأعمال تدمير وتخريب ممتلكات الفلسطينيين ومزارعهم. وما بين السطور هناك قراءة أعظم وأوسع مما يتحدث به بن غفير.
فما يحدث في غزة يحدث في الضفة الغربية، تحت خطط إفراغ المناطق إلى ما يعرف بمنطقة "ج"، وهي تشكل من مساحة الضفة أكثر من 40 بالمائة يسيطر عليها الاحتلال.
المسجد الأقصى
يأتي بن غفير إلى المسجد الأقصى ويقول:" بأننا سنبني كنيسة في قلب المسجد الأقصى". هذا الاستفزاز، والغطرسة تشير بأن القادم يحمل في جنباته الكثير من المرار، والمواجهة الحتمية، كون الاحتلال يعمل على دفع المستوطنين باقتحامات مدفوعة الثمن، لاقتحام المسجد الأقصى وتدنيس عتباته وبلاطه الذي سالت عليه الدماء، هذا يؤكد ويعزز خطورة ما يتعرض له المسجد الأقصى من انتهاكات سافرة، وصلت اليوم إلى حد محاولة تجزأته، لبناء كنيسة في ساحته، كخطوة أولى على طريق إنهاء وجود هذا المعلم الإسلامي المقدس.
وربما نتنياهو أكثر الجميع ذكاء، فهو يريد أن يكسب أصوات ورضا المستوطنين، فهو يساير سموتريتش وبن غفير وهذه المجموعة الصهيونية اليهودية المتطرفة، ليقدم نفسه على مستوى الرأي العالمي، وعلى مستوى الإعلام، وسطيًا أمام متطرفين، لكنه في حقيقة الأمر هو قائد التطرف الصهيوني منذ العام 1996 عند وصوله رئاسة الحكومة بفوزه على شمعون بريز بعد حرب عناقيد الغضب. ولكنه اليوم يتغطى خلف بن غفير وسموتريتش لتحقيق الحلم اليهودي، بظم الضفة للكيان، وتهجير أهالي الضفة إلى الأردن، لتبقى الضفة ساحة خالية من الفلسطينيين، وفي نفس الوقت تهجير أهالي غزة إلى سيناء المصرية، ورسم خارطة جديدة للكيان.
مواجهة المحتل
فصائل المقاومة الفلسطينية تقاوم مشروع الاستيطان، وما يجري حاليًا في الميدان هو إنشاء فصائل المقاومة، ليس فقط في المخيمات، وإنما في المدن. فالمخيمات هي بوابة المدن، ولأن تمركز المقاومة يجري فيها وإن كان بشكل محدود، لكنها خطوة هامة في الربط بين الضفة وغزة، وهذا يعني أن القسام أو سرايا القدس، أو الجبهة الشعبية، أو غيرها، سيكون لعناصرها وجود في الضفة الغربية. فالمقاومة واحدة وتنتمي لشعب واحد، وهناك وحدة ساحات مساندة وداعمة للشعب الفلسطيني، بما في ذلك المناطق المحتلة من عام 48، ومناطق اللجؤ والشتات والجاليات البعيدة، أي أن الشعب الفلسطيني سيدخل في معركة موحدة لخوض معركة تقرير المصير، معركة الدفاع عن الوجود،
في مواجهة الاحتلال. ومقاومة الضفة وانتفاضتها رد فعل على الانتهاكات متعددة الأوجه لإذلال الفلسطينيين، وتحقيرهم. وحتى الآن بلغ عدد الضحايا في الضفة الغربية 650 شهيدًا منذ بداية 7 أكتوبر. وهناك آلاف الفلسطينيين في معتقلات الاحتلال، ووضع اقتصادي وحصار، ومئات الحواجز وإغلاق الطرقات. والسلطة الفلسطينية لا تفعل شيئًا، هي الأخرى واقعة تحت سلطة الإحتلال، ووجودها شكلي بحصر صلاحيتها على الجوانب الأمنية والصحية والتعليم والرواتب. وهذا فيه شيء من التواضع الزائد منها. وهذا يطرح سؤال هام على الساحة الفلسطينية.. ما العمل الآن، للدفاع عن الوجود؟ الإجابة المنطقية، هو لابد من مواجهة الاحتلال بالمقاومة الموحدة وبشكل مدروس، وليس هناك من تعويل على المحيط العربي، لما يواجهه الشعب الفلسطيني من خطر حقيقي، فالمخطط واسع وكبير، والشعب الفلسطيني، ليس لديه لا دولة ولا جيش، وهو في الأخير شعب أعزل، وليس لديه إلا هذه المقاومة الوطنية، ولكنها أمام قوة نووية، وأمام دعم وإسناد أمريكي وأوروبي، ولا أمل منتظر بتبدل مواقف الأنظمة العربية المتخاذلة والصامتة بتقديم أي دعم للمقاومة، ولم تصل هذه الأنظمة إلى الشجاعة والجرأة ليعملوا بالمثل، على الأقل من باب المقاربة مع الدعم الغربي للصهاينة. ذلك لن يحدث أبدًا، تنتظر حتى يصلها الخطر. وأمام هذا الحال البائس والمجزأ، والمعجون بالتآمر التاريخي، فإن قدر الشعب الفلسطيني أن يواجه مصيره بنفسه أولاً، وإسناد جبهات الساحات. وحتى لا يتكرر مشهد غزة المأساوي، لابد من أن تكون هناك حسابات دقيقة لهذا الأمر، وهو ما يتطلب الموازة بين العمل السياسي والمقاومة المسلحة، بما يبقي الشعب الفلسطيني على أرضه، وهنا لا يجب التعويل على الأنظمة العربية بأي حراك دبلوماسي أو سياسي لحماية الشعب الفلسطيني وردع إسرائيل، بالرغم من أن وسائل الردع متوفرة لدى العرب، لا بتحريك الجيوش والطائرات والصواريخ، وإنما باستخدام أضعف وأوهن الوسائل، وهي إنهاء التطبيع مع الكيان. للأسف هذه الورقة بيد العرب، لكنهم لايريدون ذلك. ولطالما والحال هكذا، فلماذا التطبيع معه لزامًا للأمن والسلام، بالمجان؟ الكيان الصهيوني يقول أن حدوده، ليس في فلسطين وفقا لروايته السياسية " من الفرات إلى النيل"، وربطوا هذه الاستراتيجية بجانب عقائدي، أي أن الكيان يغلف حربه بطابع ديني مقدس، وإن كان ذلك بهتان وافتراء، فهل يستوعب العرب مشروع الصهاينة؟ الشعب الفلسطيني أمام مخاطر جدية، وهذه المخاطر لا تتعلق فقط بفلسطين، إنما بالإقليم بشكل عام. والآن يجب فعله، إنجاز تفاهم داخلي عاجل، للوحدة الوطنية، وتوحيد صفوف العمل الوطني بكافة فصائله، يربط بما هو سياسي بالعمل الميداني في مقاومة المحتل، وتفويت الورقة التي يلعب عليها المحتل بتغذية الإنقسام الداخلي، حتى لا تكون هناك إمكانية لوحدة وطنية، ومسار سياسي موحد، واسترداد روح المبادرة لحق الوجود الطبيعي، بالرغم من الظروف الصعبة. لذلك فالشعب الفلسطيني معني بالوحدة الوطنية، وما أُتفق عليه في إعلان بكين، وإيجاد إطار وطني موحد وتشكيل حكومة وفاق وطني بتوافق مع الجميع، لإدارة المقاومة في الضفة وغزة والقدس، وحتى الإجابة على اليوم التالي بأنه يوم فلسطيني بامتياز، يوم مقاوم يوم وحدة وطنية، فهذا التحدي هو بوابة الأمل، بالرغم من كل هذا الإنسداد الذي نراه، لعرقلة المفاوضات.
وأخيرًا، فإن المقاومة في الضفة بدأت تستلهم تجربة المقاومة في غزة، ابتداءً من تنظيم التجربة، وبداية تشكيل فصائل، تنتمي إلى فصائل المقاومة التي تنظم العمل وتديره بشكل تنظيمي بحت، وبالتالي سيكون للمقاومة جهد مؤثر على الإحتلال، وعلى قيادة مشروع التحرر في مواجهة المحتل، بكافة الوسائل المتاحة. وليس هناك من خيار بديل أمام الشعب الفلسطيني سوى المقاومة، على إمتداد الأرض الفلسطينية، خصوصًا وأن قناعة الشعب الفلسطيني أضحت راسخة بأن المقاومة بكافة أشكالها، هي الخيار الوحيد لتحرير فلسطين، وفتح العنوان الكبير على التحرر الوطني بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين إلى وطنهم.