أروى حنيش
مسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء بالمغرب العربي تحفة معمارية إسلامية تجسد الطابع المعماري المغربي الأندلسي. وهو من تصميم المهندس المعماري الفرنسي ميشيل بينسو بتوجيه من الملك الحسن الثاني، وشارك في بنائه حرفيون مغاربة من جميع أنحاء المملكة. وقام المهندس بينسو بتصميم المسجد على بنية تاريخية وأفق فني منفتح على العمارة المعاصرة، وذلك بعد سنوات قضاها في دراسة العمارة الإسلامية المغربية بعدما عاش في الدار البيضاء أكثر من 20 عامًا.
بناء المسجد
بني على نتوء يطل على المحيط الأطلسي، على الشاطئ الغربي لمدينة الدار البيضاء، ونصفه الآخر على اليابسة. ويرجع تاريخ فكرة إنشاء المسجد إلى أول زيارة رسمية للحسن الثاني لمدينة الدار البيضاء بعد توليه العرش عام 1961، وتعهد آنذاك بأن يهب العاصمة الاقتصادية "مبنى كبيرًا رائعًا، ليكون مفخرة في العمارة الإسلامية حتى نهاية الزمان". وفي يوم 5 ذو القعدة 1406هـ، وضع الحسن الثاني حجر الأساس معلنًا عن انطلاق الأشغال في بناء هذا المسجد، بحضور العلماء وطلبة الكتاتيب القرآنية وبعض رجالات المغرب. وأعلن بمناسبة يوم الشباب، في 9 يوليو 1988، عن عملية الاكتتاب الوطني لبناء المسجد، ولو بدرهم من كل واحد منهم، حتى يكون لهم الفضل فيه، ويعود ثواب بنائه عليهم. وفي 21 يوليو من العام نفسه، افتتح الحسن الثاني بالقصر الملكي في الصخيرات الاكتتاب العام، وقدم هبة مالية بلغت 4 ملايين درهم (نحو 400 ألف دولار) كما وقع شيكات أخرى باسم عدد من أفراد الأسرة الملكية.
بينما تبرع 12 مليون مغربي لبناء هذا الصرح الإسلامي الكبير عبر اكتتاب استمر 40 يومًا، وصدر لكل متبرع إيصال بمبلغ اكتتابه، وشهادة تذكارية عليها صورة المسجد. وبلغ مجموع التبرعات العامة للمغاربة نحو 30 مليون درهم (3 ملايين دولار) كما أكدت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية آنذاك. وكان اختيار الموقع على ساحل الأطلسي، ليطل المسجد على بلاد المغرب وأوروبا، فقد قال الملك "أريد أن يشيد على حافة البحر صرح عظيم لعبادة الله، مسجد تهدي مئذنته جميع السفن القادمة إلى الغرب إلى طريق الهداية، الذي هو طريق الله.. أريد أن أبني المسجد على الماء، كما أردت أن يكون المصلي فيه والداعي والذاكر والشاكر والراكع والساجد محمولا على الأرض، ولكنه أينما نظر يجد سماء ربه وبحر ربه". وقال بأن "الفكرة راودته حين قرر بناء ضريح والده محمد الخامس في مدينة الدار البيضاء، إلا أنه بعد أسابيع ارتأى أن يكون الضريح في مدينة الرباط، وقرر حينها تعويض الدار البيضاء ببناء معلم تاريخي، ففكر في بناء مسجد على الماء، شعاره الآية الكريمة "وكان عرشه على الماء". ليمنح
عاصمة بلده الاقتصادية بأكبر معلم روحي وحضاري يعكس أهمية المدينة ويشكل رمزًا قدسيًا وروحيًا لها، كمؤسسة تعليمية تسهم في نشر تعاليم الإسلام وقيمه الحميدة السمحة، وتربية الأجيال على التعاليم الدينية، ومناهجه كمركز إشعاع عالمي وروحي، وذلك على غرار مدينة فاس المعروفة بجامع القرويين، والرباط ( صومعة أو مئذنة جامع حسان) ومدينة مراكش (صومعة أو مئذنة جامع الكتبية). وهو بذلك يعتبر أول صرح ديني إسلامي يبنى على البحر. كما يعد واحدًا من أكبر المساجد في العالم وأجملها. إذ لا يمكن أن تكتمل الجولة السياحة في مدينة الدار البيضاء دون زيارة هذا المعلم الديني بطرازه المعماري الفريد. ونتيجة لهذه الخصائص، يعد نقطة جذب للزوار المغاربة والسياح على حد سواء، إذ يزوره نحو 300 ألف سائح أجنبي تقريبًا سنويًا، كما يحرص المصلون من مختلف المناطق على زيارته خلال شهر رمضان الكريم.
مئذنة المسجد
تعد مئذنة المسجد ثاني أطول مئذنة في العالم بارتفاع 210 مترًا (689 قدمًا)، ويعلوها شعاع ليزر يتجه نوره نحو مكة. وتتميز مئذنة المسجد بطابع معمار مغربي أندلسي عريق، تتجه نحو القبلة توجها ركنيًا، وليس كباقي المساجد في العالم الإسلامي التي تبنى أضلاعها في اتجاه القبلة.
والمأذنة مزودة بمنارة، وجامور مكون من 3 كرات ذهبية بارتفاع 15.5 مترًا، ويشع منه شعاع ليزر يبلغ مداه 30 كيلومترًا، وتعد في الوقت ذاته منارة للسفن القادمة إلى ميناء الدار البيضاء. وكان الملك خلال زيارته للموقع، قيد البناء، قد طلب من الشركة المسؤولة عن الأشغال رفع المئذنة بمقدار 25 مترًا إضافيًا بعد أن لاحظ أن حجمها لا يتناسب مع حجم المبنى، مما استدعى تطوير مواد البناء لتكون قادرة على تحمل الوزن الإضافي جراء هذا التعديل. أما واجهات المئذنة فهي مزينة بأشكال زخرفية من الحجر الجيري الروداني، وبعجينة زجاجية خضراء فسيفسائية الشكل، وصنعت من التيتانيوم، ومثبّتة على إطارات من الفولاذ المقاوم للصدأ. وتبلغ مساحة قاعدتها 625 مترًا مربعًا، وجهزت من الداخل بمصعد يتسع لـ 12 شخصًا، يمكنهم من الوصول إلى قمة المئذنة في أقل من دقيقة. وصنعت جدران المسجد من الرخام المشغول يدويًا وسقفه قابل للسحب، ويتسع لحوالى 105 ألف مصل كحد أقصى للصلاة: داخل قاعة المسجد 25 ألف و80 ألف آخرين في باحة المسجد الخارجية. وبالإضافة إلى ذلك، فهو يعد مجمعًا دينيًا وثقافيًا، ومعلمًا إسلاميًا وسياحيًا فريدًا بمدينة الدار البيضاء العاصمة الاقتصادية للمغرب. وقد اتخذ له الملك الحسن الثاني من قوله تعالى "وكان عرشه على الماء" (هود، الآية 7).
كان الملك قد أشرف على مراحل بنائه بنفسه، وصمم إحدى قبابه التي استعملت لأول مرة في المساجد المغربية. وتتفرد عمارته بين العمران المغربي بموقعه وضخامة حجمه وأصالة تصميمه، وبمئذنته المرتفعة، بينما تشكل الأبنية الملحقة به مجمعًا دينيًا للعلوم الدينية المختلفة، إذ لا يقتصر المسجد على كونه مكانًا للصلاة والتعبد فقط، بل خصص الجانب الشرقي منه لاستحداث مدرسة لعلوم القرآن، وتعليم العلوم الشرعية واللغوية، على نهج ما كان يدرس في جامعة القرويين. كما يضم المسجد مكتبة عمومية تقدم خدماتها للقراء إلى جانب متحف يضم أهم المواد والصناعات التقليدية التي استخدمت في بناء المسجد.
الموقع
يقع مسجد الحسن الثاني في شارع سيدي محمد بن عبد الله في الدار البيضاء، ويبعد عن محطة القطار (الدار البيضاء-الميناء) 20 دقيقة سيرًا على الأقدام.
الطراز المعماري
مسجد الحسن الثاني يجسد خصائص العمارة العربية الإسلامية، من حيث الشكل والزخرفة والحجم والموقع، وكانت هندسته المعمارية مستوحاة من الغنى الثقافي لفن البناء الذي عرف به المغرب على مر القرون. وجاء تصميم المسجد على مساحة إجمالية تبلغ 90 مترًا مربعًا، بمثابة خليط من التصميمات الأندلسية العتيقة بهذه المساجد، فأدمج أسلوبًُا مغربيًا مع خصائص حديثة في تصميم المبنى، مسايرة للتطورات التي تشهدها المباني التاريخيّة حول العالم. وشيد على جانبين، الأول من جهة اليابسة عبارة عن مدخل مُزين بأبواب مزركشة وأقواس منقوشة ذات دلالات تاريخيّة، والثاني وسط البحر. وكانت أبرز التحديات التي واجهت البناء وقتها، دفن وردم 15 هكتارًا من مساحة البحر باستخدام مواد شديدة المقاومة، تكفل متانة البناء وثباته فوق الأمواج، مثل طلاء الترافرتين والتيتانيوم للأبواب، و"تدلاّكت" (نوع من الأصباغ المضادة للماء ومشهور في العمارة المغربية) في الداخل لمواجهة الرطوبة. واستدعى البناء المغمور في ماء المحيط ما يناهز 300 ألف متر مكعب من الخرسانة و40 ألف طن من الفولاذ. والمسجد يعد من سلاسل المنشآت والمباني الإسلامية في إحياء التراث الأندلسي، مع المحافظة على الشكل المعماري المغربي.
ومن أهم ملامح هذا النمط التركيز على قاعة الصلاة (المصلى أو صحن المسجد) بما يتناسب مع مساحة المسجد، وتوافر مصدر الضوء والهواء لباقي أجزائه. وتقع قاعة الصلاة على مساحة هكتارين في قلب المبنى، وتتسع لـ 25 ألف مصل، إضافة إلى 80 ألفًا آخرين في الساحة الخارجية. ويعلوها سقف متحرك ارتفاعه 60 مترًا، يفتح ويغلق آليًا في 5 دقائق لتحويل مركزه إلى فناء مشمس على غرار البنايات القديمة التي تميز الهندسة العربية الأندلسية، كما تضاء بثريات المورانو، والأبواب الزجاجية بالجدار الشمالي، ومجموعة من الشماسات المرمرية الفخمة، و3 فتحات مصنوعة في إطار خشبي مقوس. وصحن المسجد مجهز بأرضية مدفأة مغطاة بالرخام والغرانيت والحجر الجيري، الذي يحاكي ديكور سجاد مغربي، وتزينه قباب تدعى "ستينيا" وقباب على شكل وردة، أطلق عليها اسم "حسّانية" أشرف الملك بنفسه على تصميمها، وطلب من الصانعين خلال فترة البناء تشكيلها، فكانت أول قباب تستعمل في مساجد المغرب، وهي عبارة عن خشب محفور ومثبّت على إطارات مصنوعة من 971 طنًا من الفولاذ غير القابل للصدأ ومعلّق بهيكل خرساني.
ويتميز المسجد بارتفاع أعمدته 13 مترًا، وتنوعها من حيث الشكل والمهارة الحرفية، في توظيف جمالي لخط وزخرفة الخشب والجبس والنحاس والرخام والفسيفساء والأصباغ بتشكيل ألوانها، وقد أبدعتها أيادي أمهر الصناع التقليديين المغاربة.
وكان الحرفيون يعرضون على الملك آنذاك نماذج زخرفية تراثية متنوعة من الخشب والنحاس والحجر والرخام والزليج والجص، أنجزت أثناء ورش بناء المسجد، وانتقى من بينها 142 عينة فنية، معروضة في متحف الحسن الثاني، الذي دشنه الملك محمد السادس عام 2012.
مجمع ثقافي متكامل
تشكل الأبنية الملحقة بالمسجد مجمعا ثقافيًّا متكاملا، هدفها الارتقاء بالمسجد من مجرد معلم يعكس الإبداع المغربي في فن العمارة بمميزاته الهندسية والجمالية، إلى منارة إشعاع ديني فكري وثقافي تعمل على نقل المعرفة، وهي:
المدرسة القرآنية للتعليم النهائي العتيق
دشنها الملك الحسن الثاني عام 1988، على مساحة 4840 مترًا، وهي مصممة على شكل هلالي، شرق محراب المسجد، أصبح اسمها مدرسة العلوم الإسلامية ابتداء من عام 2016، وتضطلع بمهمة التكوين في مجال العلوم الإسلامية، وعلوم الأديان، وعلوم العربية واللغات الأخرى، وكذا التعليم العتيق.
متحف الحسن الثاني
دشنه الملك محمد السادس عام 2012، على مساحة تناهز 3160 مترًا مربعًا، ويضم أهم منشآت الصناعات التقليدية المعتمدة في بناء المسجد، وهي عبارة عن مجموعة من القطع المنتقاة بعناية من قبل الصناع الحرفيين أثناء بناء هذا المعلم التاريخي، والمصنف ضمن لائحة التراث الوطني.
أكاديمية الفنون التقليدية
بنيت عام 2012، وهي فضاء متميز للبحث العلمي في مجال الفنون التقليدية، من خلال استكشاف وحفظ الخصائص الفنية للفن التقليدي والحفاظ عليه من الانقراض، وتخريج مهندسين معنيين بكل ما يختص بالتراث المعماري المغربي.