
توفيق سلاّم
يبدو واضحاً أن يمناً جديداً يولد من عمق التحولات العاصفة، التي تخوض فيها اليمن ما يشبه حرب التحرير الوطنية التي أدت إلى خلق ديناميات استراتيجية، ولدت الكثير من عناصر القوة والاقتدار في طبيعة التحول من واقع استشعارها بالأخطار وتسارعها التي تحيط بها ومن حولها على الساحة الإقليمية والدولية، وحضور العامل الدولي الهادف إلى شمول الحرب على كامل الجغرافية اليمنية، واستحكام نفوذه نحو مخطط مشروع الشرق الأوسط الجديد في إعادة تقسيم المنطقة إلى جانب أهداف أخرى، بما يخدم السياسة الإمبريالية الغربية بإبعادها الجيوستراتيجية للسيطرة والنفوذ على المنطقة.
الدور الريادي لليمن
الشعب اليمني بطبعه الحضاري محب للسلام، لكن عندما تتعرض البلد للعدوان والحصار، فإنه قادر على الدفاع عن نفسه وعن قضيته العادلة. وأن وجود اليمن المستقر والمزدهر يلبي طموحات وتطلعات الشعب اليمني، ولا يشكل تهديداً لأي طرف إقليمي، بل أنه عامل أمن واستقرار لكل دول المنطقة. فاليمن جزء أصيل ولا يتجزأ من منطقة الخليج وشبه الجزيرة العربية، قادر على العمل مع جميع دول المنطقة لتحقيق الأمن الجماعي لها.
وبدا الموقف اليمني واضحًا بعد معركة طوفان الأقصى بدعم ومساندة الشعب الفلسطيني، كونها القضية المركزية للأمة العربية والإسلامية، ولكل الأحرار في العالم، وهي
مسألة ترقى إلى مستوى الالتزام العقائدي والأخلاقي والوطني والعروبي، يؤكد فيه اليمنيون جليًا دورهم الريادي الحضاري والإنساني والكفاحي والبطولي في صناعة التاريخ، ورفض مشاريع الاستعمار ومقاومته. وتتصدر اليمن موقعًا استراتيجيًا هامًا، في الصراع الدولي، وهي تتأثر سلبًا وايجابيًا بالأحداث والمتغيرات الدولية، وديناميتها وحراكها بسقوفها المختلفة، انطلاقًا من معادلة عدم الرضوح والاستسلام للمشاريع الغربية، ومقاومة نزعات الشر الإمبريالي، وخططه ومشاريعه الاستعمارية الذي كبد الأمم والشعوب الكثير من الويلات، وسلب مقدراتها وحقها في الوجود والتعايش والنماء والتطور والازدهار. ومعروف أن الدولة الواقعة، تحت نفوذ المستعمر يحرم عليها ممارسة كافة مظاهر سيادتها داخل إقليمها، أو على المستوى الدولي.
وعلى هذا الأساس أنتجت سياسة الاحتواء والتبعية مولدات صناعة التخلف بكافة أشكاله، بحيث أصبحت التبعية الاقتصادية والسياسية والتبعية النقدية والمصرفية، وتبعية الاستثمارات للخارج، ولرؤوس الأموال الأجنبية داخل الدولة التابعة، وسيطرتها الكلية على مفاصل الاقتصاد، وعلى المنشآت التجارية والشركات الأجنبية سواء بيوتات استيراد أو تصدير، أو شركات استثمار صناعي، زراعي.. الخ. ومثل هذه المؤسسات الأجنبية تعمل على استمرار ضعف وتبعية الاقتصاد القومي للدولة التابعة. ونفس الحال في التبعية السياسية والتدخل في الشؤون الداخلية، وتصل إلى مستوى التهديد بالمخاطر لفرض الحماية بالتواجد العسكري وإنشاء القواعد العسكرية، كما هو حاصل في الحالة الخليجية في معادلة الخضوع لنظام الانتداب أو الوصاية، أو حتى في ظل الاستقلال الناقص، أو التحول السياسي، كما حدث في دول شرق أوروبا نحو الأطلسي، أو كما حدث عربيًا في الحالة المصرية في فترة السادات بعد حرب 1973، بالتحول من المعسكر الشرقي إلى الغربي، وما حدث بعد ذلك من معاهدات مصحوبة بشروط استسلام سياسية واقتصادية وعسكرية تتعارض مع سيادة الدولة المصرية.
خروج اليمن عن التبعية
اليمن خرجت من حالة التبعية الاستعمارية، وهذا ما أغضب أمريكا والغرب عمومًا، وهذا هو جوهر الصراع الحاصل اليوم، وطبيعة عدوان التحالف العربي على اليمن، لإعادة اليمن كحديقة خلفية للرعاة الخليجيين، ولحضن الأمريكي ووصاياه ونفوذه.
الحقيقة المرة، التي لم يكن أحد يستوعبها، أن اليمن تواجه حروبًا عديدة، وحصارًا وأوضاعًا صعبة ومعقدة للغاية، أنها تقف متضامنة ومساندة مع مظلومية الشعب الفلسطيني في مقاومة العدو الصهيوني.. هذه المعادلة الاستراتيجية، كانت خارج حسابات الصهاينة وحلفائهم الغربيين، لم تخطر على بال مفكر استراتيجي، ولا في احتمالات قادة وخبراء البنتاجون الأمريكي، ووكالات الاستخبارات الأمريكية والبريطانية ولا غيرهم. لا أحد راهن على احتمالات الأخطار من الجبهة اليمنية على إسرائيل، كانت الأنظار تتجه بعيدًا عن اليمن نحو مناطق الجوار الفلسطيني. فكان قرار اليمن صادمًا لإسرائيل وأمريكا وبريطانيا، بإعلان اليمن تضامنها مع الشعب الفلسطيني، كمؤشر إضافي على التحولات الكبرى التي يعيشها اليمن، منذ اللحظات الأولى لطوفان الأقصى، لتشتعل معركة البحر الأحمر وتتحول إلى معركة بحرية دولية، استهدفت فيها اليمن بالصواريخ والمسيرات السفن الإسرائيلية، وغيرها من السفن العابرة إلى الموانئ الفلسطينية المحتلة عبر البحر الأحمر ومضيق باب المندب. وبدا تصعيد الصراع يأخذ طابعًا دوليًا مع دخول أمريكا وحلفائها البحر الأحمر لحماية أمن إسرائيل، وسعت إلى طمأنة شركات الملاحة الدولية بفرض الحماية بمرورها الآمن. كل تلك المحاولات فشلت، وهو ما حذا بشركات الملاحة الدولية لتغيير وجهتها الملاحية عبر رأس الرجاء الصالح، كان ذلك مكلفًا للغاية. ولم تعد السفن تصل ميناء أم الرشراش" إيلات". وشكلت هذه الجبهة علامة فارقة في معركة طوفان الأقصى، فكانت ضربات الجبهة اليمنية مؤلمة للكيان الصهيوني، في المعركة البحرية التي قصمت ظهر إسرائيل بالأزمات الاقتصادية والسياسية والمالية، وصلت إلى حالة الانهيار جراء الحصار، ومنع السفن من العبور في البحر الأحمر إلى الموانئ الفلسطينية المحتلة. تدخلت الولايات المتحدة الأمريكية بكل ثقلها لفك الحصار المفروض على إسرائيل، ودفعت بقطعاتها البحرية، إلى البحر الأحمر والبحر العربي ومضيق باب المندب، ثم شكلت تحالفًا بحريًا دوليًا "حارس الازدهار"، من مجموعة من الدول، استمر هذا التحالف لبعض الوقت، ورأت الدول المشاركة فيه، أنه ليس لها لا ناقة ولا جمل، فتضعضع التحالف، ولم تتبق إلاّ بريطانيا.
فشل كسر الحصار
شن الغارات الجوية المستمرة لقصف المدن اليمنية، واستهداف المدنيين والمناطق السكنية، كل ذلك لم يثن اليمن، وفشلت محاولة كسر الحصار البحري رغم الهجمات المستمرة. وقوبل هذا التصعيد بتصعيد موازٍ، حيث زادت اليمن من هجماتها بالصواريخ والمسيرات والزوارق البحرية التي طالت السفن الإسرائيلية والبريطانية والأمريكية في البحر الأحمر وخليج عدن، والبحر العربي، وتطور الأمر إلى مراحل من التصعيد المختلفة، حتى المرحلة الخامسة. الاستهداف شمل سفنًا تجارية، وبوارج وفرقاطات ومدمرات، أمريكية وبريطانية. وأدرك الأمريكان أنه لا جدوى من العمليات البحرية، ولا منظومات الدفاع الجوي لحماية السفن والقطع العسكرية التي تطالها الصواريخ والمسيرات والزوارق البحرية. وازدادت مخاوف الأمريكان والبريطانيين، مع إعلان اليمن امتلاكها صواريخ فرط صوتية، ومسيرات حديثة ومتطورة، وإعلان اليمن مجددًا الانتقال إلى المرحلة الثانية إلى استهداف السفن في المحيط الهندي. وسعى الأمريكي تهدئة الموقف ببذل الاغراءات بالاستجابة لمطالب اليمن لإنهاء الحصار ووقف الحرب على اليمن. ولم تقبل اليمن بهذا العرض واشترطت وقف الحرب على غزة وانسحاب الجيش الصهيوني من غزة ودخول المساعدات الغذائية. ثم سعى الأمريكي مجددًا عبر وسطاء إقليميين لعدم استهداف حاملات الطائرات الأمريكية لاسقاط الهيبة الأمريكية وفخر الصناعات الحربية التي ظلت بهذه القواعد المتحركة فرض هيمنتها على الدول والمضائق والممرات البحرية، وعلى خطوط الملاحة الدولية. عشرات المرات حذرت اليمن أمريكا وبريطانيا، بأن التصعيد لن يقابل إلا بالتصعيد الموازي، وأنه ليس هناك خطوطًا حمراء أمام اليمن. فهم الأمريكان الرسالة جيدًا، وهربت حاملات الطائرات "إيزنهاور" من تمركزها في البحر الأحمر واتجهت خلسة إلى الخليج العربي.
الحدث الأبرز
إلا أن استهداف اليمن بمسيرة "يافا" اليمنية لـ"تل أبيب"، كان هو الحدث الأبرز خلال الأيام الماضية، كان حدثاً مفصلياً وهامًا، شهده العالم بنوع من الدهشة، إلى درجة أن مصدراً في الجيش الإسرائيلي وصف هجوم المسيرة "يافا" بأنها "بمنزلة 7 أكتوبر جديد لأنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلي"، وأن هذه العملية تنذر بانتهاء عصر "السماء الصافية"، ومنظومة "القبة الحديدية"، وكل أنظمة الدفاع الجوي التي تحمي "إسرائيل". فقبل طوفان الأقصى، لم يكن اليمن بعيداً عن الاهتمام الإسرائيلي ربطاً بالاستراتيجية الإسرائيلية التي تنص على الهيمنة على البحر الأحمر ومضيق باب المندب. فالأطماع الإسرائيلية التي تُرجمت خلال سبعينيات القرن الماضي بسيطرة "إسرائيل" على عدد من الجزر الإثيوبية جنوب البحر الأحمر، دفعت اليمنيين إلى نشر قوات في جزيرتي حنيش الكبرى وجبل زقر عام 1977. وشهد العام 1995 تطورات لافتة على هذا الصعيد. قامت البحرية الإريتيرية، وبإشراف خبراء إسرائيليين، بمهاجمة جزر حنيش اليمنية بزوارق بحرية إسرائيلية وطائرات إسرائيلية. وقد سجل أن تحركات أريتيريا في البحر الأحمر تأتي بالتنسيق مع "إسرائيل" والولايات المتحدة الأمريكية، وصولاً إلى تحول منطقة جنوب البحر الأحمر إلى مجال نفوذ أمريكي إسرائيلي. أرادت أريتيريا الاستيلاء على جزيرة حنيش كأول نقطة استراتيجية هامة للسيطرة على خطوط الملاحة، وربما أرادتها أن تكون قاعدة عسكرية إسرائيلية بحكم العلاقة بين الدولتين. التصعيد والتوتر بين اليمن وأريتيريا كان على وشك اندلاع الحرب بين الدولتين، وتخطت الوساطات عوامل التصعيد، ووصل ملف اليمن إلى الأمم المتحدة وإلى أروقة مجلس الأمن الدولي وصدر قرارًا بأحقية اليمن سيادتها على الجزيرة.
أدرك الإسرائيليون أن اليمن يمر بتحولات كبيرة مع بداية العدوان العربي على اليمن، وتعاطى الإسرائيليون، وكأن الحرب حربهم، وكتبت صحيفة يديعوت أحرونوت في تلك الفترة أن الحرب في اليمن تدخل في "مصلحة إسرائيل، وهي فرصة لقطف الثمار". وفي آب 2020، نُشرت دراسة في مجلة "معراضوت" الإسرائيلية تظهر الاهتمام الإسرائيلي باليمن وحيثياته. ذكرت الدراسة أن المعركة في اليمن جزء من الصراع الإقليمي على الهيمنة على الشرق الأوسط بين إيران والسعودية، وأن صنعاء ستمنح طهران سيطرة على مضيق باب المندب". وفي سياق الربط بين أنصار الله وحزب الله، طرحت الدراسة السؤال التالي: "ماذا يستطيع الحوثيون تعلمه من حزب الله؟ وماذا يستطيع حزب الله أن يتعلم من تجربة اليمن" ؟
مجالات الاستفادة والدروس المستقاة من قبل الطرفين تتعدد وتتوزع بحسب الدراسة الإسرائيلية بين "الساحة البحرية واستخدام المسيرات والدفاع الجوي". وتقول المجلة الإسرائيلية: "إضافة إلى المعلومات والتجربة التي راكمها حزب الله، تراكمت تهديدات مباشرة لإسرائيل ومصالحها من جانب اليمن"، وتخلص الدراسة إلى أن المعركة على الهيمنة على الشرق الأوسط في اليمن قد تجر "إسرائيل"، إلى داخل قلب المعركة، وتوصي أصحاب القرار في "إسرائيل" بأن يتابعوا التطورات في ساحة القتال في اليمن.
ولكن يبدو أن المتابعة لم تؤتِ ثمارها. يظهر الأداء الإسرائيلي، كما التطورات اللاحقة، أن الفهم الإسرائيلي لليمن لم يكن دقيقاً، ما يشير إلى ضعف في التحليل وفي تفهم المعطيات اليمنية. ويبدو أن سوء الفهم والتقدير وصل إلى ذروته بعد طوفان الأقصى. وأفاد تقرير نشره معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي في جامعة "تل أبيب" في شهر كانون الأول من العام الماضي بأنَّ "عدة عوامل قد تجعل اليمن تقلص استهدافها لإسرائيل"، وأضاف التقرير، بأن المسافة بين اليمن و"إسرائيل" التي تصل إلى نحو 2000 كلم حتى إيلات في أقصى جنوب "إسرائيل"، هي العامل الأول الذي سيدفع بهذا الاتجاه. التقدير ذاته تكرر في موقع ماكو العبري الذي حسم أنّ "جماعة أنصار الله، غير مهتمة بفتح جبهة مع إسرائيل". أما صحيفة معاريف، فذهبت إلى حد طمأنة الجمهور الإسرائيلي إلا أن مدى الطائرات التي يمتلكها اليمن يبلغ 800 كيلومتر، وأنها لن تتمكن من حيث المبدأ من استهداف إسرائيل".
في الأخير، فإن التحول في اليمن وصل إلى قضية جماهيرية، وخيارًا ثوريًا شعبيًا للتخلص من التبعية والوصاية الأجنبية، والهيمنة الخارجية غير المقبول. فمقاومة العدوان غير هذه المعادلة، بفضل امتلاك اليمن مقومات الردع الاستراتيجي، ووفر مساحة للتضامن ومساندة الشعب الفلسطيني في قضيته العادلة ومقاومته المشروعة للاحتلال الصهيوني وحرب الابادة الجماعية والتطهير العرقي لأبناء الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية. وجاءت الطائرة المسيرة "يافا"، لفرض قواعد اشتباك جديدة، في أساليب الردع. كانت أهم اختراق لجدران السواتر الإلكترونية، كشفت عن الخلل في التقديرات الاستخبارية، وفشل المنظومات الإسرائيلية في اكتشاف الطائرة المسيرة الحديثة المزودة بأجهزة التخفي، لتصل لضرب العمق الإسرائيلي في تل أبيب. هذا هو التحول الاستراتيجي النوعي الذي جعل اليمن كقوة وازنة في المنطقة، وفي الصراع الإقليمي والدولي. ويبدو أن اليمن تدرس الرد على إسرائيل على هجماتها على منشآت مدنية في مدينة الحديدة. والواضخ أن الصراع مع إسرائيل سيطول، مالم ترضخ إسرائيل لوقف الحرب في غزة، وتنهي هذا الصراع على طاولة المفاوضات، ودون هذا الخيار فلن تتوفر لإسرائيل عوامل الأمن والاستقرار أبدًا. فإسرائيل هي من اختارت التصعيد، وحرب الإبادة والتصفية العرقية لقطاع غزة والتدمير والخراب، وهي الآن تعد نفسها لمعركة شاملة وطويلة مع حزب الله والعراق واليمن وسوريا، وزيارة نتنياهو لواشنطن تحمل الكثير من الشر على المنطقة، وتتخذ من حادثة مجدلة شمس في الجولان ذريعة لضرب لبنان، فهل ستقدم إسرائيل على هذه المغامرة لإشعال الحرائق في المنطقة؟