عرب جورنال / توفيق سلاّم -
المفاوضات هي الطريق لإنهاء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، باعتبار استمرار الحرب والتصعيد العسكري الإسرائيلي لن يصل إلى نتيجة، بل يوسع دائرة الحرب في المنطقة الذي تبدو مؤشراته خطيرة على اندلاع حرب شاملة. فالتصعيد الإسرائيلي يؤثر بشكل سلبي على مسار التفاوض السياسي الذي يفترض أن يتخطى مناخاته بين طرفي الحرب للتوصل إلى رؤية توافقية تقتضي وجود تنازلات متبادلة ما بين حركة حماس من جهة وإسرائيل من جهة أخرى. لكن هناك وجهة نظر أخرى، وهي أن النسق العقيدي الحاكم لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو والتيار الرئيس اليميني المتطرف الذي يحكم إسرائيل، ينطلق من مقاربة قائمة على المزيد من التصعيد العسكري والمزيد الإبادة للسكان، والايحاء بأن العملية العسكرية البرية على رفح بغض النظر عن نطاقها وحجمها، تدفع حركة حماس إلى تقديم المزيد من التنازلات، وبالتالي لا يمكن فصل العمليات العسكرية البرية والقصف الجوي عن مسألة التفاوض السياسي بدليل أنه في الوقت الذي تشير فيه كل المؤشرات، بأن إسرائيل ماضية في الحرب، هناك حديث عن مفاوضات وإرسال وفد إسرائيلي إلى الدوحة، مكث ساعات وعاد مجددًا إلى تل أبيب، لاسيما بعد تقديم حركة حماس مرونة في تقديم تنازلات وصفت بالإيجابية، لإنهاء العدوان في هذه المعركة، بما يستجيب لمطالب الشعب الفلسطيني، في الوقت الذي تسعى فيه الإدارة الأمريكية للربط بين وقف إطلاق النار، وترتيب الحالة الفلسطينية في اليوم التالي للحرب، بما يضمن استجابة الحالة الفلسطينية للشروط الأمريكية، ومن ثم ينطلق الأمريكي إلى إعادة ترتيب أوراق المنطقة في مناخ بناء نظام إقليمي جديد لصالح أمريكا وإسرائيل والمطبعين في نفس الوقت.
مأزق نتنياهو
نتنياهو واقع في مأزق سياسي لعدم قدرته على تحقيق أهداف الحرب وهو يريد الآن أن يشتري الوقت تحت حجة التفاوض، لكي يضمن إدامة حياته السياسية، وأيضًا مستقبله السياسي الشخصي. وخلافاته تبدو أكثر عمقًا مع المؤسسة العسكرية والمؤسسة الأمنية اللتان تنحوان نحو إنجاز هذه الصفقة. فالعديد من هذه القيادات يقولون الآن هذه الفرصة الأخيرة، لعودة حكومة نتنياهو مجددًا لجولة جديدة من المفاوضات، وهو الأمر الذي استوعبته الحكومة قبل فوات الآوان، وبادرت إلى أرسال فريق إلى الدوحة لصفقة تبادل الأسرى، والاتفاق حول المراحل الثلاث وفقًا للمقترح الذي أعلنه بايدن بمراحله الثلاث. إلا أن هناك أطرافًا إسرائيلية ترفض وقف إطلاق النار، فعلى يمين نتنياهو بن غفير وسموتريتش اللذان يستغلان هذه الحرب المجنونة على قطاع غزة من أجل أن يطلقا فرامل عقولهما المتهورة باتجاه مزيد من الاستيطان، ومزيد من التهويد في الضفة الغربية في سياق مشروع الحكومة الإسرائيلية القائم على الاستيطان والظم، وأيضًا على التهجير والترحيل لأبناء غزة والضفة، وهذا هو مشروع التطرف اليميني الصهيوني. ويبدو أن الأمور وصلت إلى خواتمها، كما يقول يائير لبيد:" يجب إبرام الصفقة الآن، وإعادة الرهائن، وهذه الفرصة الأخيرة"، وبين أن تكون محطة من محطات المراوغة، ومن ثم الإفشال، والعودة إلى نقطة الصفر مرة أخرى. فما الذي يميز إيقاف خط التفاوض من جديد هذه المرة؟
الواضح أن ما يميز الوضع الآن، أن هناك عاملان متناقضان: العامل الأول يتمثل، في أن إسرائيل فشلت في تحقيق أهدافها العسكرية والسياسية في حربها على قطاع غزة. الشيء الوحيد الذي نجحت فيه هو الدمار والخراب والمجازر والإبادة الجماعية للمدنيين، وتدمير البنية التحتية، ومع ذلك لم يصلوا لتحقيق أهدافهم في فرض سيطرتهم العسكرية على غزة أو اقتلاع المقاومة، كما حلموا، أو استرداد أسراهم بالقوة أو في أهم هدف كان لهم التطهير العرقي، بفضل صمود وبسالة وبطولة شعب فلسطين. والعامل الثاني، المشاكل الداخلية التي تعاني منها إسرائيل، وتحاول أن تتجاهلها. فهذه أطول مواجهة في تاريخها لتسعة أشهر، ولديها خسائر بشرية كبيرة، بالمقارنة مع حروب أخرى خاضتها سابقًا، ولديها أيضًا خسائر اقتصادية، فالاقتصاد الإسرائيلي على وشك الانهيار، رغم أنهم لا يتحدثون عن ذلك، ولديهم عزلة عالمية لا مثيل لها.
الآن تقول وسائل إعلام إسرائيلية يوجد تقدم إيجابي في المفاوضات، فما هو هذا التقدم الإيجابي، رغم أن وفدهم ذهب إلى الدوحة وعاد إلى إلى تل أبيب مرة أخرى؟
وخلال الساعات القادمة، سوف ترسل إسرائيل وفدها للتفاوض في القاهرة، والمقاومة الفلسطينية تحافظ بثبات على المواقف المبدئية في المسائل الأساسية مثل وقف إطلاق النار وإنهاء العدوان وإخراج جيش الاحتلال من قطاع غزة، وضمان عودة كل المهجرين إلى منازلهم وإلى المناطق التي هُجروا منها.
موافقة حماس على مقترح بايدن
تبدي المقاومة الفلسطينية مرونة عالية، في موافقتها على مقترح بايدن، لأنها تريد أن تضع نتنياهو في الزاوية، ولا تريد أن تسمح له مرة أخرى، هو ومعاونيه في الإدارة الأمريكية، على الإدعاء بأن المقاومة هي السبب في عدم إنجاز هذه الصفقة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن نتنياهو والحكومة الفاشية المتطرفة التي يمثلها سموتريتش وبن غفير ورغبتهما في إطالة أمد الحرب، وهي ذات الرؤية التي تتقاطع مع نتنياهو لإطالة أمد الحرب لسنوات للقضاء على حماس، ولكنه يواجه خلافات داخلية أشرنا إليها سابقًا. فالمؤسسة الأمنية والجيش يبلغان القيادة السياسية، بأن هذه الفرصة ذهبية للتفاوض والوصول لاتفاق، ويجب استغلالها، فيما يؤكد الجيش الإسرائيلي "إذا أردنا أن نقضي على حماس نحتاج إلى سنوات طويلة، وهذا يعني أن نفقد الأسرى". هذه التصريحات وردت في أخبار القناة 13 الإسرائيلية". وهناك مظاهرات حاشدة في إسرائيل، تطالب بالتفاوض لاستعادة الأسرى.. فهل كل الأطراف في إسرائيل تراها بالفرصة الأخيرة إلاّ نتنياهو، لا سيما مع تقديم حركة حماس تنازلات بموافقتها على مقترح بايدن، بمراحله الثلاث بشرط التتابع والتزام إسرائيل وقف إطلاق النار، وتوفير الضمانات لذلك؟
نتنياهو يعرف أن نهاية هذه الحرب هي نهايته السياسية، ويعرف أنه سيحاسب على فشله في 7 أكتوبر، وسيحاسب على إدارة الحرب، وسيحاسب أمام محكمة الجنايات الدولية التي على وشك أن تصدر أمرها باعتقاله، وفي نفس الوقت لديه أربع قضايا فساد، كل واحدة منها يمكن أن تذهب به إلى السجن. موقف الجيش يقول لنتنياهو يجب أن ننهي الحرب، ولم نعد نستطيع تقديم الشيء الأكثر، بفتح جبهة ثانية مع لبنان، ولديه جبهة مشتعلة في قطاع غزة. فهل كل هذه العوامل تغير من مسار مشهد الحرب والانتقال إلى المفاوضات؟
كل القراءات ترى بأن هناك ارتباكًا في الإدارة الأمريكية، كل مرة يحاولون تحميل المقاومة المسؤولية عن عدم التقدم وتساوقوا مع نتنياهو في الادعاءات الكاذبة، لكن هذه المرة يجدوا أنفسهم في حالة حرج شديد. ولعل التحركات التي يقوم بها رئيس جهاز المخابرات الإسرائيلي "الموساد" دافيد برنياع إلى العاصمة القطرية الدوحة لمواصلة بحث صفقة تبادل الأسرى، ووقف إطلاق النار في غزة. يأتي ذلك وسط ترقب لعقد لقاء رباعي أمريكي وإسرائيلي ومصري وقطري في القاهرة، في ظل تسريبات عن أجواء إيجابية في إسرائيل حيال إمكانية تحقيق ذلك.
تأتي هذه التحركات في ضوء رد حماس الذي وصف بالايجابي على المفاوضات، التي من المفترض أن تبدأ خلال الساعات القادمة، في وقت يخيم فيه الخلاف وعدم الثقة والارتباك بين المسؤولين الإسرائيليين، وصلت إلى حد إرسال نتنياهو مستشاره السياسي الشخصي "أوفير فليك" برفقة فريق التفاوض إلى قطر، وهو ما رأت جهات إسرائيلية أن هدفه من هذا الإجراء مراقبة كيفية إدارة "برنياع" للأمور. وأمام هذه التطورات تحتاج الصفقة المرتقبة إلى وقت ليس بقليل بكونها تتضمن تفاصيل كثيرة وقضايا ميدانية وأمنية تنتهي باتفاق مكتوب. فيما كشفت وسائل إعلام إسرائيلية عن وثيقة أعدها أربعة باحثون إسرائيليون قدمت إلى مجلس الأمن القومي والكبينت ترمي إلى تحويل قطاع غزة من مجتمع يدعو إلى قتال إسرائيل إلى مجتمع معتدل، وبحسب الوثيقة فإن الشرط الأول الذي تطرحه الوثيقة هو ضرورة هزيمة حماس على اعتبار أنه لا يمكن لإسرائيل أن تعيش إلى جانب دولة تسيطر عليها حماس. والافتراض الأساسي الثاني هو أن غزة يجب أن تظل عربية وفلسطينية، وأن هذين الافتراضين يؤديان إلى استنتاج مفاده بأن هناك حاجة للتحول في غزة وإعادة الإعمار فيها.
المعركة تبدو مديدة وستأخذ أشكال وأبعاد متعددة رغم مضي تسعة أشهر وسقوط عشرات الآلاف بين شهيد وجريح ومفقود، وتدمير 70 بالمئة في قطاع غزة، والمقاومة صامدة وتعيد ترتيب نفسها. نتنياهو يحاول أن يطيل أمد هذه المعركة لعله يحقق شيئًا من أهدافه، وأيضًا يوفر مناخًا لترتيب الوضع في قطاع غزة بما يحلو له، حينما أطلق كلامًا واضحًا أنه لا يريد فقط تدمير المقاومة، بل يريد أن يغير الوعي لأبناء قطاع غزة، وحتى في الضفة الغربية.
مشروع الظم والتهويد
الصهاينة يعانون رغم البطش وهستيريا المستوطنين، فلدى بن غفير وسموتريتش صلاحيات، فقد حولا الجيش الإسرائيلي إلى الإدارة المدنية في سياق مشروع الظم، وفرض رؤيتهما في الضفة تحت جناح هذه الحرب، ولذلك هم يفكرون بإعادة صياغة وهيكلة السلطة الفلسطينية، وهيكلة الأجهزة الأمنية والتربوية والإدارية والمالية وغيرها، بما يعني تغيير الوعي وتغيير الرواية الفلسطينية وتغيير الذاكرة الفلسطينية. ويبحثون عن أصدقاء فلسطينيين لإدارة مشروع اليوم التالي، وبالتالي يحاولون الاتصال بشخصيات دون مستوى القيادات العليا في السلطة الفلسطينية.. يعني قيادات أقل. وبشكل عام
لدى إسرائيل سيناريوهات متعددة، كلها قائمة على تأبيد الاحتلال وإيجاد مناخ لقوات عربية أو دولية متعددة الجنسيات، وتأسيس بيئة فلسطينية تتعاون معهم من مستويات متدنية في قطاع غزة، وهذه تحديات كبيرة أمامها، لأن كل مكونات المجتمع في غزة وكل مكونات الشخصيات الوطنية ترفض الاحتلال وتناضل ضده، ولم تترك أي فسحة، أو أي مجال لهذا المحتل أن يبقى محتلاً أو أن يوظف عدد من الشخصيات. فالعديد من هذه الشخصيات أعلن رأيه بشكل واضح أنه لا يمكن أن يجري أي تعاون مع المحتل. فالشعب الفلسطيني، ليس هو فقط حاضنة، وإنما هو شعب مقاوم إلى جنب الأجنحة العسكرية سواء كانت القسام أو سرايا القدس أو عمر القاسم أو أبو علي أو كتائب الأقصى أو الجبهة الشعبية أو غيرها، وكلها موحدة في الميدان. ولن يكون هناك يوم أمريكي، أو يوم إسرائيلي في غزة، بل سيكون يومًا فلسطينيًا وترتيب الوضع في قطاع غزة هو شأن فلسطيني في إطار عملية حوارية ينبغي المسارعة من أجلها لبناء إطار فلسطيني موحد في كنف منظمة التحرير الفلسطينية على قاعدة استراتيجية المواجهة.
فما قالته الوثيقة حول اليوم التالي التي تتعامل تقريبًا مع قطاع غزة مثل التعامل مع اليابان بعد جريمة هيروشيما وناجازاكي، وأيضا ألمانيا أي إبادة وتدمير وسحق الشعب الفلسطيني، ثم إعادة الإعمار، وإقامة حكومة صديقة. مثل هذه التصورات لا تنطبق على غزة قطعًا، لأن المقاربة في حد ذاتها غير واردة، ولأن إسرائيل ليست معنية بإقامة دولة فلسطينية. وهم في الضفة الغربية يجعلون من السلطة الفلسطينية سلطة بلا سلطة بالكامل، وجردوها من كل صلاحيتها الأمنية. وكل يوم نتنياهو يطلع يتحدث عن نفيه لإقامة دولة فلسطينية. إذًا المقاربة بحد ذاتها غير صحيحة هذه نقطة، والنقطة الأهم كل ما يريده نتنياهو والفاشيون المتطرفون في حكومته أن يجدوا وسيلة لبقاء الاحتلال داخل غزة هذا هو هدفهم. وكل ما يتحدثون عنه أن يأتوا بقوات عربية أو دولية لغزة، فقد رد عليهم وزير الخارجية الأردني :" نحن لسنا مستعدين أن نأتي إلى غزة لنمسح قذارة الاحتلال، أو لنغطي على وجود الاحتلال". كل هذه السيناريوهات لا قيمة لها، لأن الشعب الفلسطيني هو وحده من يقرر ما سيجري في غزة في اليوم التالي. وبالتالي كل هذه المشاريع مرفوضة، فلا قوات عربية أو دولية بديلة للاحتلال الإسرائيلي، ولا احتلال دولي يغطي على الاحتلال الإسرائيلي، والعبرة هنا تكمن في توحد الفلسطينيين معًا في موقف فلسطيني موحد يصر على وجود حكومة وفاق وطني مقبولة من الجميع في قطاع غزة والضفة الغربية تضمن وحدة الشعب الفلسطيني، وتمنع أي ترتيبات إسرائيلية. وكل ما تريده إسرائيل من وراء هذه المفاوضات هو تحسين صورتها أمام الرأي العالمي، بعد بشاعة مجازرها، ولا يبدو أن الطريق سيكون سالكًا، لإنهاء الحرب فكل ما تريده إسرائيل هو إطلاق إسراها، لتعود الأمور إلى نقطة الصفر.