
أروى حنيش
على بعد 405 كيلومتر جنوب العاصمة تونس، على الساحل الجنوبي للبلاد، تقع مدينة قابس التي حباها الله جمالا طبيعيا قلّ نظيره في البلاد حيث جمعت بين سواحل بحرية ممتدة وواحات ساحلية وداخلية متنوعة وثرية وجبال وصحاري منسجمة مشكّلة لوحة فنية رائعة تأسر العين والعقل والقلب معا. وبفضل طبيعتها الخلّابة وموقعها المميّز، باتت هذه المدينة محميّةً طبيعيةً للعديد من الحيوانات والنباتات، وقد عُرفت أيّام البربر والفينيقيّين باسم (تكاب) و(تكابيس)، ومن المدن الشبيهة بها: مدينة لينتز في النمسا، ومدينة سان بريوك في فرنسا، كما تُعتبر قابس البوابة التي انطلقت منها الفتوحات العربية إلى دول القارة الإفريقيّة، لذلك لُقبت بدمشق الصغرى.
أهميّة موقع قابس
تحتلّ مدينة قابس موقعاً استراتيجيّاً يميّزها عن باقي المدن التونسيّة، فهي تتميّز بإطلالتها على البحر الأبيض المتوسط عبر خليج قابس، الذي يربط دول المشرق العربيّ بمغربها، وبكونها محطّة ومرسى للقوافل والسفن التجارية الآسيوية والإفريقية، وتشتهر بواحتها الغنيّة بأشجار النخيل، وبإشرافها على خليج سرت، وتُقسم قابس إلى عشر معتمديات منها: غنوش، مطماطة، شنني النحال، ذرف، والمطوية. سكّان قابس يبلغ عدد السّكان في قابس حوالي مئة وثلاثين ألفاً وتسعمئة وأربع وثمانين نسمةً، ويتوزّعون فيها في مناطق الحامة، وغنوش، والمطوية، وتعود أصولهم إلى قبائل عربيّةٍ نزحت من شبه الجزيرة العربيّة، كقبائل بني سليم، وبني يزيد، والمرازيق بدوز، والهمامة وغيرهم. اقتصاد قابس تُعتبر هذه المدينة عصب الصناعة والتجارة التونسية، وتشتهر بالزراعة المرويّة، وتنشط فيها الحِرَف التي تعتمد على أشجار النخيل التي تنتشر على جوانب الواحات فيها، والتي يقدّر عددها بثلاثمئة ألف نخلةٍ، ومن هذه الصناعات: تعليب التمور، وصناعة الحصر من جريدها والسلال من سعفها، بالإضافة إلى العديد من الصناعات الثقيلة، كالتعدين، والبتروكيميائيات التي تعتمد على النفط ومنتجاته كموادها الأولية، وتُعتبر الصناعة التونسية في المجال الكيميائيّ من أجود وأنشط الصناعات على مستوى قارّة أفريقيا، كاستخراج الفوسفات، وتصنيعه، وتصديره عبر ميناء قابس، وصناعة الإسمنت والآجر، بالإضافة إلى صناعة المنسوجات، وتعليب الأغذية كأسماك التونة والسردين.
تاريخ المدينة
يعود تأسيس مدينة قابس إلى الفينيقيين، والذين عملوا على بناء جزءٍ منها، ثم ساهم البربر في بناء الجزء المتبقي، وقد اختلطت العمارة البربرية مع الفينيقية حتى لم يعد من السهل تحديد أية حضارةٍ عملت على بناء قابس قبل الأخرى، ثم سيطرت الإمبراطورية القرطاجية على المدينة، ثم قام الرومان باحتلالها، وإعلانها كمستعمرةٍ تابعةٍ للإمبراطورية الرومانية. استمر الاحتلال الروماني على المدينة حتى جاءت الفتوحات الإسلاميّة لبلاد المغرب العربي، والتي ساهمت في استعادة قابس، والمدن التونسية من السيطرة الرومانيّة، ولكن تم احتلالها من الفرنسيين، والألمانيين وعانت قابس من تدميرٍ كبيرٍ حتى قام سكان المدينة في نهاية القرن العشرين للميلاد ببنائها مجدداً، وإعادة الحياة العمرانية في أرضها.
خصوصيات ومميزات المدينة
تتميّز المدينة، بمقومات وخصوصيات تبرزها عن باقي مناطق البلاد الأخرى
وتقول بعض كتب التاريخ أن المدينة كانت في البداية بمثابة موقع وكالة تجارية متخصّصة في المبادلات مع بلاد نوميديا وفي التجارة عبر الصحراء. وقد تحوّل هذا المصرف التجاري إلى ميناء قرطاجي ثمّ أصبح فيما بعد مستعمرة رومانية.
ميناء قابس
مثّل الميناء نقطة توسع المدينة ووصفها المؤرّخ سترابن الذي عاش حوالي سنة 58قبل الميلاد، إلى حوالي سنة 25 بعد الميلاد بأنّ قابس “سوق عظيمة” يتبادل الناس فيها البضائع الواردة من المناطق الصحراوية والسلع الموجهة نحو نوميديا. وفي نهاية القرن العاشر ميلادي، يقول عنها المقدسي في كتاب “أحسن التقاسيم” إنّها مدينة “أصغر من طرابلس”، وإنّها “مبنيّة بالحجارة واللبن، كثيرة النخيل والعنب والتفاح”، وإنّ “أراضيها الخلفية آهلة بالبربر” وإنّ بسورها “ثلاثة أبواب”.
لوحة طبيعية
تتميّز المدينة، بمقومات وخصوصيات تميّزها عن باقي مناطق البلاد الأخرى ما يؤهّلها لاستقطاب أعداد كبيرة من السياح الداخليين والأجانب، ذلك أنها تمتلك شواطئ رملية خالية من الصخور على طول حوالي 40 كم يرتادها.
وتطل هذه الشواطئ على واحات كثيفة وخلابة يمكن اعتبارها فريدة من نوعها في العالم، وتعد واحات قابس ركنا أساسيا من أركان السياحة بالجهة وتمتد على مساحات واسعة من وادي قابس وغنوش وتبلبو والزارات والمطوية.
وتتميز المدينة بوجود واحة على ساحل البحر قريبة من الصحراء والجبال وهوما يعطي السياحة بالجهة بعدا آخر لسياحة تجمع بين السياحة الواحية والسياحة الجبلية والصحراوية لما تحتوي عليه مناطقها من جبال وتضاريس متنوعة يمكن اعتبارها من العوامل الاساسية في تنويع المنتوج السياحي في البلاد.
إلى جانب هذه السواحل المائية وواحات النخيل والتضاريس الجبلية تتميّز المدينة أيضا بكهوفها المنتشرة في مختلف ربوعها، كهوف ذات طابع معماري مميز بالمناطق الجبلية تروي أحقابا طويلة من تاريخ الانسان في الجهة، وتقف شاهدة على تمكنه من التأقلم المستمر والمتواصل مع العوامل الطبيعية.
مدينة الحنة
تعرف مدينة قابس أيضا، بالحنة القابسية التي تعتبر من أجود أنواع الحناء في العالم، فهي تتميز عن الحناء المصرية والليبية والمغربية والهندية لجودة ورقها وجمال خضابها، نظرًا لطبيعة المناخ الذي تتميز به المدينة.
ويرى بعض المؤرخين أن نبتة الحناء قد دخلت إلى مدينة قابس منذ العصور القديمة، حيث قدمت بها القوافل التجارية القادمة من الشرق عبر البحر وتعرض أوراق الحناء ضمن معروضاتهم التجارية، فيقتني منها تجار قابس كميات عبر المقايضة وتبادل السلع ويروجونها في المجتمع القابسي القديم، لتتزين بها المرأة في تلك العصور.
الآثار التاريخية
تُعرف مدينة قابس بغناها بالآثار التاريخيّة التي تعود لحِقَبٍ زمنيةٍ متفاوتةٍ، وقد تمّ العثور فيها على العديد من الأضرحة الرومانية، والبربرية، والفينيقية، والإسلامية، كما عُثر فيها على العديد من الأواني الفخارية والخزفية.