يوليو 2, 2024 - 15:58
قرار النيجر بسحب تراخيص التنقيب من الشركة الفرنسية "اورانوا" ضربة قوية لباريس


أروى حنيش

في ظل التطورات التي تشهدها النيجر بعد الانقلاب العسكري، وتصاعد حدة التوتر بين نيامي والغرب، اتهم قادة الانقلاب فرنسا بالتحضير لتدخل عسكري، لإعادة الرئيس محمد بازوم إلى منصبه، معلنين تعليق صادرات اليورانيوم إلى فرنسا، مما يعتبر ضربة قوية لباريس التي تعتمد على هذه المادة الحيوية بنسبة كبيرة في توليد الكهرباء. ويغطي يورانيوم النيجر 35 في المئة من الاحتياجات الفرنسية، ويساعد محطاتها النووية على توليد 70 في المئة من الكهرباء. ولذلك تجد فرنسا نفسها في مأزق، فانقلاب النيجر سينعكس عليها سلبا بشكل مباشر، خاصة أنها اتخذت قرارا استراتيجيا بتوسيع محطاتها النووية، مما يعني أن طلبها على اليورانيوم سيكون أعلى الآن مما كان عليه في السنوات السابقة، وذلك لتشغيل مفاعلاتها النووية البالغة 65 مفاعلا.

سحب تراخيص الوقود النووي

تعد النيجر من الدول التي تحتل المرتبة الأولى عالميا  في إنتاج اليورانيوم الذي كان ينهب من قبل الشركات الفرنسية، بثمن بخس، فالنيجر لا توجد بها كهرباء، بل تصلها الطاقة الكهربائية من جارتها نيجيريا. فالاستعمار الفرنسي الجاثم فوق ثرواتها السيادية، لم يساعد البلد حتى في إنشاء محطات كهربائية، بالرغم من أن النيجر تنتج اليورانيوم بكميات كبيرة. وبعد انسحاب القاعدة الفرنسية من النيجر بعد الانقلاب على حكومة محمد بازوم الموالية للغرب قررت النيجر الاستقلال عن التبعية الاستعمارية، واتجهت إلى تبني برامج تنموية، وكان أول هذه القرارات الحفاظ على الثروة السيادة لتصبح بيد السلطة الجديدة، فجأ قرار النيجر الاستراتيجي الذي يقضي  بسحب الترخيص من الشركة الفرنسية  "أورانو" الفرنسية لإنتاج الوقود النووي في منجم "إيمورارين"، وهو أحد أكبر مناجم اليورانيوم في العالم. وأفادت شركة "أورانو" بأنها تلقت أوامر بالخروج من منجم إيمورارين في شمال النيجر الذي يحتوي ما يقدر بنحو 200 ألف طن من المعدن الذي يستخدم في الطاقة النووية. وكانت وزارة التعدين في النيجر قد حذرت من أنها ستُلغي ترخيص شركة "أورانو" إذا لم يبدأ تطوير المنجم. في المقابل، تدعي الشركة الفرنسية أنها استأنفت مؤخراً نشاطها في المنجم، وأعادت فتح البنى التحتية لاستيعاب فرق البناء.
وتحتل النيجر موقعا خاصا في إستراتيجية الأمن القومي الفرنسي منذ أن بدأت فرنسا عام 1971 عبر شركة "أريفا" في الاستحواذ على استخراج يورانيوم النيجر الذي يمد فرنسا بـ35% من احتياجاتها من الطاقة النووية والتي تساهم بدورها في تشغيل 75% من الطاقة الكهربائية الفرنسية. وتمنح شركة أريفا العملاقة -التي تعمل في مجال الطاقة النووية واستخراج اليورانيوم وصنع المفاعلات النووية– عناية خاصة للنيجر التي كانت تحتل المرتبة الرابعة عالميا بعد كزاخستان وكندا وأستراليا قبل أن تقفز مع اكتشاف منجم إيمورارن لتحتل المرتبة الثانية عالميا بعد كزاخستان، والأهم أفريقيا، إذ لا يزال منجم ناميبيا المملوك لأريفا غير مستخدم.
تعمل شركة أريفا في دولة النيجر عن طريق شركة تابعة لها تسمى "أريفا" النيجر التي تقوم بتنسيق عمل الشركات الفرعية التي تدير المناجم الثلاثة، وهي سومايير، وكوميناك، وإيمورارن مع الشركة الأم.

أنشطة تعدين اليورانيوم 

من مفارقات العلاقة المختلة بين عالمي الشمال والجنوب أن تكون النيجر الدولة الأفقر والأكثر هشاشة على المستوى العالمي، وفق معايير الأمم المتحدة تساهم عبر ثرواتها المنهوبة في تمويل جزء كبير من مشروعات فرنسا من الطاقة النووية، وتزويدها باحتياجاتها من الطاقة الكهربائية. وتبدأ قصة فرنسا ويورانيوم النيجر منذ خمسينيات القرن الماضي، عندما شرعت فرنسا بالتنقيب عن النحاس، فلم تجد له أثراً، لكنها وجدت اليورانيوم. وبموجب اتفاق بين البلدين وُقّع عام 1961 و 1968، قامت الهيئة الفرنسية للطاقة النووية بتوسيع التنقيب، وأسست شركة "سوميير" سنة 1968 كأول شركة فرنسية لاستخراج اليورانيوم من 4 مناجم في النيجر. وبدأت الشركات الفرنسية أنشطة استكشاف واستخراج اليورانيوم بشروط وُصفت بـ"المخزية والظالمة" لأصحاب الأرض، من بينها إعفاء الشركات الفرنسية العاملة في قطاع اليورانيوم من ضريبة الشركات والحصول على إعفاءات من ضرائب الدخول والرسوم الجمركية.
وافتتحت فرنسا أوّل منجم لتعدين اليورانيوم في مدينة أرليت عام 1971، حين قامت شركة "أريفا" الفرنسية المملوكة للدولة، والمعروفة حالياً باسم "أورانو"، بمهام استخراج المعدن الأكثر استخداماً لتوليد الطاقة النووية الفرنسية.
وفي الفترة الممتدة بين عام 1974 وأواخر الثمانينيات، بدأت شركة كهرباء فرنسا تشغيل المفاعلات النووية بواقع 6 مفاعلات كل عام، حتى أصبحت تمتلك فرنسا اليوم نحو 56 محطة نووية أُنشئ معظمها في فترة السبعينيات والثمانينيات، وتوفّر نحو 75% من احتياجات فرنسا من الكهرباء. وأصبحت فرنسا في مصافي أكبر مصدري الطاقة الكهربائية، فيما تعيش النيجر في ظلام دامس، إذ لا يتجاوز الوصول إلى الكهرباء نسبة 19.3% من إجمالي السكان، واقتصادها الهشّ جعلها واحدة من أفقر البلدان على وجه الأرض، إذ يعيش أكثر من 60% من سكانها البالغ عددهم 17 مليون نسمة على أقل من دولار واحد. ولم تكن العلاقة بين الطرفين على طريق الندية والمنفعة المتبادلة. وقد اجتهدت النيجر قبل عقود وحاولت التخلص من إرث الاستغلال الفرنسي لمناجم اليورانيوم، لكنها جوبهت بأدوات فرنسية سياسية وعسكرية منعتها من الذهاب بعيداً في استقلال قرارها الاقتصادي. ومنذ تلك اللحظة، سيطر الفرنسيون على اليورانيوم في النيجر التي تعد من بين أكبر منتجي هذا المعدن في العالم. وكانت النيجر تأمل أن يحقق التنقيب عن هذا المعدن الاستراتيجي مكاسب مالية تساهم في التنمية الاقتصادية، لكن هذا لم يحدث.
الاستغلال الظالم للشركات الفرنسية في التنقيب عن يورانيوم النيجر كان بطريقة  القوة والابتزاز، وابرام العقود السرية مدتها 75 سنة، وتحت بنود مستقرة ودائمة منذ سنة 1968 إلى 2043. فموارد النيجر من اليورانيوم خلال الـسنوات الـ45 الماضية لم تتجاوز 13% من مجموع العائدات.
وفي رسالة فرنسية مفخّخة لكنها أقل من انقلاب 1974 وقبل انتهاء عام 2013، تعرض أحد مناجم "آريفا" لهجوم وصف بـ"الإرهابي"، فأوقفت عمليات الإنتاج. وفي عام 2014، اتهمت الحكومة النيجرية شركة "آريفا" بتمويل حركة تمرد طوارقية، وطردت مديرها والملحق العسكري الفرنسي السابق متهمة إياه بالتواطؤ مع المتمردين، فيما اتهم ناشطون الشركة بمحاولة ليّ ذراع الدولة لإجبارها على قبول الأمر الواقع أو مواجهة المشكلات الأمنية.
وتبلغ حصيلة ما استخرجته الشركات الفرنسية من يورانيوم النيجر منذ العام 1971 إلى غاية سنة 2012 ما مجموعه (110 آلاف طن) تم استخراجها من منجمي سومايير، وكوميناك، أما منجم إيمورارن الجديد الذي لا يزال قيد التجهيز فيفترض أن ينتج خمسة آلاف طن سنويا على مدى 35 سنة قادمة.

 دلالات إلغاء التراخيص 

 يرى الكاتب ثابت معمور بأن سحب وإلغاء التراخيص مع الشركة الفرنسية أورانو، يتضمن دلالات وابعاد اقتصادية في توجهات الحكومة الجديدة في بناء المشاريع التنموية للبلد، ويتلخص أهمية القرار بالنقاط التالية :    
1- محاصرة النفوذ الفرنسي في النيجر عموما،ً وفي التنقيب عن اليورانيوم، وهي إحدى دلالات الشرعية السياسية في البلاد، ولكن يجب الانتباه إلى ردود الفعل الفرنسية، لأن سحب تراخيص التنقيب عن اليورانيوم قد يكون له تداعيات أمنية، بتنشيط الأعمال الإرهابية، وخاصة بعد  إخراج القوات الفرنسية من البلد.
2- خطوة النيجر في سحب تراخيص التنقيب من شركة "أورانو" الفرنسية هي خطوة إجرائية في الأصل، وإن كانت لا تخلو من دلالات سياسية، ذلك أن الشركة مارست الابتزاز والخداع، إذ كان من المفترض أن يبدأ التعدين في منجم إيمورارين عام 2015، ولكن شركة "أورانو" علّقت عملياتها عقب انهيار سوق اليورانيوم بعد كارثة فوكوشيما النووية في اليابان عام 2011.
3- منذ 2015، خططت الشركة الفرنسية لتشغيل المخزون من دون الشروع في الإنتاج، إلا أن النيجر حذّرت من سحب رخصة تشغيل الشركة إذا لم تبدأ عمليات التعدين في الحقل المعني خلال 3 أشهر، ابتداءً من آذار/مارس الماضي. ورغم أن الشركة الفرنسية بدأت الاستعدادات الميدانية لبدء الإنتاج في 4 حزيران/يونيو المنصرم، استجابة لطلب حكومة النيجر، فإن وزارة التعدين قالت في رسالة أرسلتها إلى الشركة إن "التطورات لم تكن على مستوى التوقعات". 
4 - خطوة الشركة الفرنسية تُعد محاولة ابتزاز، إذ إن توقف التنقيب واستخدام المخزون يعني في أحد معانيه حرمان النيجر من أي عائدات مالية لتجميد عمليات التنقيب، وهو ما انتبهت إليه النيجر. وبناء عليه، قررت سحب تراخيص التنقيب من الشركة الفرنسية، ولوحت بشركات روسية وصينية وإيرانية، كلها أبدت اهتمامها بموقع تعدين اليورانيوم في إيمورارين. وبالتالي يمكن أن تحل في التنقيب عن اليورانيوم محل الشركات الفرنسية. وقد حصلت شركات صينية وأسترالية وأمريكية وبريطانية وإيطالية وكندية وروسية وهندية على تراخيص لتعدين اليورانيوم في السنوات الأخيرة، إذ منحت النيجر 31 تصريحاً للتنقيب و11 ترخيصاً للتعدين عام 2022.
5 - قرار النيجر سحب تراخيص التنقيب من الشركة الفرنسية يأتي في بيئة سياسية دولية وإقليمية وأفريقية غاية في الأهمية تشهد تحالفات وتشابكاً في العلاقات، وبالتالي فإن قرار إلغاء النيجر ترخيص شركة الطاقة النووية الفرنسية "أورانو" قد يكون مقدمة لصفقة تمنح النيجر بموجبها إيران نحو 300 طن من اليورانيوم النيجري، وهو ما ألمحت وأشارت إليه تقارير غربية وأمريكية في آذار/مارس الماضي، ما يعني أن قرار النيجر إلغاء تراخيص الشركة الفرنسية لا يعني فقط وقف السرقة والاستغلال الفرنسي ليورانيوم النيجر، لكنه سيُفضي إلى عدة متغيرات تتعلق بإعادة رسم محددات العلاقات الخارجية للنيجر بعيداً عن فرنسا وأكثر قرباً من روسيا والصين وإيران.