
أروى حنيش
انتهت انتخابات البرلمان الأوروبي بصعود متوقع لأحزاب اليمين، وإن كانت أحزاب وسط اليمين واليسار هي المسيطرة. هذا الصعود للقوميين والشعبويين سيكون له أثر على مستقبل سياسة الاتحاد الأوروبي، على الصعيد الداخلي والخارجي. وقد نُظمت هذه الانتخابات في سياقات إقليمية، يحكمها عدد من المتغيرات التي هيمنت على المشهد الأوروبي والعالمي في الآونة الأخيرة.
وتشير النتائج المعلنة إلى أنّ اليمين الشعبويّ "الجبهة الوطنية" في فرنسا جاء في المرتبة الأولى بنسبة 32 في المائة، متقدمًا على حزب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون؛ الذي أعلن على إثر ذلك حلّ البرلمان "الجمعية الوطنية"، مع الدعوة إلى إجراء انتخابات برلمانية مبكرة 30 يونيو المقبل. أما في ألمانيا فقد حصل حزب البديل من أجل ألمانيا على المرتبة الثانية متقدمًا على الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي يرأسه المستشار أولاف شولتس، ومسبوقًا بحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي وشقيقه البافاري بنسبة 16 في المائة، بالإضافة إلى تقدم معظم أحزاب اليمين الشعبوي في عموم الدول الأوروبية.
وبهذا تكون النتائج التي أحرزتها قوى اليمين الشعبوي ستؤدي حتمًا إلى رسم خرائط سياسية جديدة داخل البرلمان الأوروبي ومنه في عدد من الدول، ما قد يسفر مستقبلًا عن خلل في التوازنات القائمة منذ عقود، بفعل اتساع الكتلة الانتخابية لليمين المتطرف في عدد من الدول الأوروبية التي تمثّل مركز الثقل في الاتحاد ألمانيا، وفرنسا، وغيرهما من الدول، كما سيكون لحضوره المؤسّساتي النوعي داخل الاتحاد الأوروبي تأثير في منظومة التشريع والقوانين، وفي السياسات الخارجية للاتحاد وعلاقاته التجارية والاقتصادية.
فالنتائج ستسفر في المدى المتوسط عن هيمنة منتظرة على السلطة والحكم، لا سيما أن القوى السياسية التقليدية تآكلت بنيتها وحظوظها السياسية، كما تؤكد متغيرات الأزمتين: الاقتصادية والاجتماعية بفعل التوترات والحروب سواء مع روسيا في أوكرانيا، أو غيرها،
تعريف الشعبوية؟
الباحثين يقولون انها استراتيجية تتجسد في مختلف الأحزاب السياسية لتوليد السلطة والحفاظ عليها عن طريق الاستفتاءات العامة والاستفتاءات والخطب العامة. ويقول باحثون آخرون أن الشعبوية هي ظاهرة يستخدمها الأفراد الشعبويون لبناء علاقة أقوى مع “الشعب”. ويميل بعض الخبراء، من ناحية أخرى، إلى اعتباره منطقًا سياسيًا، لقد ذكر “بيتر ورسلي” أن الشعبوية ليست ظاهرة تقتصر على منطقة معينة، كما أنها ليست المعقل الفريد لأي جانب أيديولوجي من السياسة، بل هي بالأحرى جانب من مجموعة متنوعة من الثقافات والهياكل السياسية”. في نهاية المطاف، يقول الباحث الماركسي ورسلي (1964)، بأن الشعبوية هي أسلوب سياسي.
تلعب وسائل الإعلام البديلة الشعبوية دورًا مهمًا في تشكيل الخطابات والحوارات تعزيز المعتقدات الاستقطابية بين قرائها. هذا النوع من الوسائط على وجه الخصوص يكون مؤثرًا في المجتمعات ذات المواقف الشعبوية القائمة والتي تتسم بانخفاض الثقة في وسائل الإعلام. ومن الأهمية بمكان أن التعرض لمحتوى إعلامي بديل مثير للمشاكل يمكن أن يزيد من الشعبوية المواقف في هذه المجتمعات.
وتشكل روايات المؤامرة جزءًا كبيرًا من المحتوى الإشكالي وسائل الإعلام البديلة. يمكن أن يشجع هذا المحتوى الأشخاص على اعتناق آراء عدائية، وتحريضهم على الدفاع عن مجموعات أخرى وحتى القيام بهجمات ضدها.
الشعبوية و اليمين المتطرف
شهد اليمين المتطرف انتعاشًا قويًا مع تصدر الشعبوية للسياسة في عدد من الدول، ويمثل ظهور الشعبويات في العادة إخفاقًا للبعد العقلاني في السياسة. من أهم مظاهرها تجنب الفاعلين طرح الأسباب الجوهرية للمشاكل والأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة للنقاش، والاستعاضة عنها بممارسة اختزالية وتبسيطية، تستثمر في إذكاء الفوبيا من الآخر داخل المجتمع، من أجل حشد الجمهور الغاضب من الفشل السياسي والاقتصادي وتوجيه اختياراته السياسية من خلال البروباغندا الإعلامية والسياسية، التي تستثمر ببراعة في سيكولوجيا الجمهور.
غير أن اختيارات الجمهور في لحظات الاضطراب لا تخضع لمعايير عقلانية، وإنما تصبح أكثر انحيازا نحو خطاب يستثير العواطف ويلهب الشعور الجماعي بوعود لا تحمل إلا الانغلاق والتقوقع على الذات، في حين أن بعدًا من أبعاد الأزمة قائم في الركود الاقتصادي عقب جائحة كورونا، وأزمة التضخم، وإفلاس عدد من الشركات.
والشعبوية تخدم بشكل أو بآخر أطروحات اليمين المتطرف، وقد ظهر ذلك بجلاء في مقاربة جملة من المشاكل السياسية والاقتصادية في الصراع السياسي الانتخابي، وعلى منصات الإعلام طيلة العقد الماضي، باعتبارها أزمة هجرة ومهاجرين وقضايا هوياتية ترتبط بالنمط الثقافي والقيمي الأوروبي الذي أصبح موضع تهديد في نظر أحزاب اليمين، ومن ثم كراهية الإسلام والمسلمين، إذ ينظر إلى الإسلام باعتباره نقيضًا جوهريًا لأوروبا قيميًا وثقافيًا.
البرلمان الأوروبي
يعد البرلمان الأوروبي جزءًا من العملية التشريعية أو عملية صنع القانون في الاتحاد الأوروبي. يقع مقره في بروكسل ولوكسمبورغ وستراسبورغ. وحول آلية صنع القرار فيجب أن تتم الموافقة على معظم القوانين المقترحة من قبل البرلمان الأوروبي ومجلس الاتحاد الأوروبي لتصبح قانونًا. يضم البرلمان 705 مقاعد، وتجرى الانتخابات لشغل هذه المقاعد في جميع الدول الأعضاء كل 5 سنوات. البرلمان الأوروبي هو الهيئة الوحيدة المنتخبة مباشرة داخل الاتحاد الأوروبي. ومن المقرر أن يرتفع عدد أعضاء البرلمان الأوروبي في أيرلندا في البرلمان الأوروبي إلى 14 (13 حاليًا) في الانتخابات الأوروبية المقبلة في يونيو 2024. وسيزيد العدد الإجمالي لأعضاء البرلمان الأوروبي في البرلمان الأوروبي من 705 إلى 720.
وينتخب البرلمان رئيسه إلى جانب 14 نائباً للرئيس. ويمثل رئيس البرلمان لدى مؤسسات الاتحاد الأوروبي الأخرى. ويعتمد عدد أعضاء البرلمان الأوروبي لكل دولة عضو بشكل فضفاض على عدد سكان الدولة العضو. ولا يمكن لأي دولة أن يكون لديها أقل من 6 أعضاء أو أكثر من 96 عضوًا في البرلمان الأوروبي. لدى أيرلندا 13 عضوا في البرلمان الأوروبي. ينضم أعضاء البرلمان الأوروبي إلى المجموعات، أو يمكنهم الجلوس كأعضاء مستقلين في البرلمان الأوروبي. ولكي يتم الاعتراف بأي مجموعة، يجب أن تضم ما لا يقل عن 25 عضوًا في البرلمان الأوروبي يمثلون ربع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي على الأقل
صلاحيات البرلمان
يناقش التشريعات؛ يمكنه تمرير القوانين أو رفضها، كما يمكنه إجراء التعديلات (لكن ليس في جميع الحالات). يجب أيضًا أن يتم إقرار القوانين من قبل مجلس الاتحاد الأوروبي حتى تصبح قانونًا. إذا كان القانون يتعلق بميزانيات الاتحاد الأوروبي، فلا يمكن للبرلمان سوى تقديم المشورة بشأنه، ولا يملك سلطة رفض القانون.
يشرف على مؤسسات الاتحاد الأوروبي وميزانياته؛ يجب أن يحصل رئيس مفوضية الاتحاد الأوروبي على موافقة البرلمان، ويجب أن تجيب المفوضية عن الأسئلة الكتابية أو الشفهية أثناء طرحها.
يحدد ميزانية الاتحاد الأوروبي جنبًا إلى جنب مع مجلس الاتحاد الأوروبي.
وخلافًا لأغلب البرلمانات الوطنية، لا يستطيع البرلمان الأوروبي طرح التشريعات، إذ إن المفوضية الأوروبية هي المؤسسة الوحيدة في الاتحاد الأوروبي التي تتمتع بسلطة إصدار (أو بدء) قوانين جديدة، ويمكن للبرلمان فقط أن يطلب من اللجنة وضع القوانين.
تأثير صعود اليمين على أوروبا
1- وحدة الاتحاد الأوروبي: تبنت الأحزاب اليمينية خطاباً مضاداً لقدرة الاتحاد على مواجهة التحديات الداخلية للدول الأعضاء، ورفضت تدخل التكتل في سياسات الدول، لذا تتعلق المخاوف بشأن تأثير هذه الأحزاب في سياسات البرلمان الأوروبي أو دفع بلادها للخروج من الاتحاد.
2 - سياسات الهجرة: زيادة حدة الانقسام حول التعامل مع ملف الهجرة، واتجاه بعض الدول إلى سياسات مشددة ضد قبول طلبات اللجوء والهجرة غير الشرعية.
3 - اتساع التيار اليميني: تدريجياً انتقل توسع فوز الأحزاب اليمينية المتطرفة منذ 2018، ما يرجح احتمالية توسع دائرة الحكومات اليمينية وتشكيل تحالف يرسم ملامح جديدة لأوروبا.
4 - أزمة الديون والطاقة: بعد تولي إسبانيا رئاسة الاتحاد الأوروبي في يوليو 2023، يترقب الأوروبيون مسألة تعديل قوانين الدين لمنطقة اليورو والتوافق حول إصلاح سوق الطاقة، ومسألة الاستقلالية عن الصين وعودة الصناعات الأساسية لأوروبا.
5 - العلاقات مع روسيا: علاقة رئيسة الحكومة الإيطالية مع روسيا، تثير القلق بشأن موقف بعض الدول الأوروبية من الحرب الأوكرانية والتوافق الأوروبي حول دعم أوكرانيا.
عوامل صعود اليمين
تعددت العوامل المؤثرة في صعود شعبية اليمين المتطرف، فهناك عوامل موضوعية ذات صلة بالتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها أوروبا، وهناك المحفزات الخارجية المرتبطة بالتطرف، وكلها تحمل تأثيرات فعّالة في تغذية الإقبال على اليمين المتطرف.
وقد عملت أحزاب اليمين المتطرف في عدد من الدول بالاستثمار الذكي في الأزمة التي يعرفها الوضع الاقتصادي الأوروبي، بتوجيه الأنظار بخطاب شعبوي إلى طبيعة التهديدات التي تمثلها قضايا الهجرة واللجوء والمكونات الاجتماعية والثقافية التي تعود أصولها إلى بلدان أو مصادر أجنبية، ومن ثم فإن حلول الأزمة الاقتصادية والاجتماعية تقترن بالتشديد على أن "أوروبا للأوروبيين"، سواء في التشغيل وحركة الاقتصاد والعمالة، أو في سياسات الهجرة وواقع التعددية والحريات الدينية والثقافية.
هذا النّهج يهدد في واقع الأمر، التقاليد السياسية والثقافية والحقوقية في أوروبا، ويحمل ضررًا بالغًا على النّسيج الاجتماعي وسمة التعددية والتنوع التي ظلّت السرديات الخطابية؛ السياسية والفكرية في أوروبا تعتبر نفسها نموذجًا يحتذى به ومقياسًا للديمقراطية الليبرالية.
هذا بالإضافة إلى أنه يلغي دور المواطنين الأوروبيين من أصول مهاجرة؛ مسلمين وغير مسلمين، في الإسهام في حركة الاقتصاد والديناميات الثقافية والاجتماعية التي عرفتها أوروبا إلى حدود اللحظة الراهنة، وهذه سمة تخص كل الشعبويات ذات النزعة الأصولية، مثل الهند التي عاد فيها الحزب القومي الهندوسي "بهاراتيا جاناتا" بزعامة رئيس الوزراء ناريندرا مودي إلى السلطة، أو أوروبا الشرقية وغيرها من الدول التي برز فيها زعماء شعبويون، يؤدّون بخطابهم ونزوعهم التحريضي إلى نشر الكراهية والتطرف، وتعميم التوتر والقلق بأشكال متنوعة، أحدها ظاهرة اليمين المتطرف في أوروبا.
اليمين ونظرته حول أوكرانيا
بشكل عام، ينظر اليمين إلى الإنفاق الدفاعي باعتباره خسارة للاقتصاد، وأن من الأفضل الاهتمام بتعزيز الاقتصاد والرفاهية بدلاً من دفع مبالغ طائلة للإنفاق على تعزيز قدرات حلف الناتو، لكن حرب أوكرانيا أدخلت اليمين الأوروبي في انقسامات تجعله غير قادر على إدارة حركة موحدة، حتى لو كسب مقاعد إضافية في البرلمان الأوروبي، الأمر الذي سيمنحهم صوتاً أكبر في ذلك البرلمان، وفي الاجتماعات الرئيسية لوزراء الاتحاد ، وفي قمم زعماء الاتحاد الأوروبي.
فمن الخطأ الاعتقاد أنّ اليمين الأوروبي هو كتلة واحدة متراصة، وأنه سيتخذ موقفاً موحداً من القضايا المطروحة أوروبياً، ولكن نجاحه وصعوده يؤشر إلى أن ناخبي الاتحاد الأوروبي لا يؤيدون سياسات حكوماتهم، وخصوصاً في فرنسا وألمانيا، حيث يعاني الرئيس إيمانويل ماكرون والمستشار أولاف شولتس من تراجع شعبيتهما.
ويكمن التعقيد في سياسات اليمين في الاتحاد الأوروبي في لجوء أحزاب اليمين الوسط وأحزاب السلطة إلى تقليد خطابات اليمين المتطرف في ما خص الهجرة واللجوء، وذلك للحفاظ على ناخبيهم الذين باتوا ينحازون إلى خطابات التطرف والخوف وأمننة قضايا الهجرة واللجوء باعتبارها قضايا أمن قومي سوف تؤدي إلى تغيير هوية الاتحاد الأوروبي وأمنه المستقبلي. وبناء عليه، سيكون اليمين موحداً وفاعلاً في هذه القضايا، ولكنه سينقسم في التعامل مع قضايا الأمن الحقيقية كالإنفاق الدفاعي وحلف الناتو والموقف من الحرب الأوكرانية.