مايو 21, 2024 - 18:34
أزمة إقليم اسيكيبو الحدودي بين فنزويلا وغويانا.. هل تشعل فتيل الحرب بين الدولتين؟  

أروى حنيش

عادت قضية إقليم "إسيكيبو" المحاذي للحدود الفنزويلية للواجهة من جديد بعدما أعلنت الجمعية الوطنية الفنزويلية مؤخرًا عن نيتها إجراء استفتاء شعبي عام لضم الإقليم إلى أراضيها، وذلك بعد أن ثبت وجود كميات كبيرة من النفط فيه.
هناك مخاوف كبيرة من تأزم الخلافات بين فنزويلا وغويانا في أمريكا اللاتينية، وإمكانية تحولها إلى حرب بين الدولتين، وذلك وسط خلافهما بشأن السيادة على إقليم إيسيكيبو الغني بالنفط.

قرار ضم اسيكيبو 

كان الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، قد طرح، مشروع قانون لضمّ منطقة إيسيكيبو، لتسارع غويانا إلى اعتبار أن هذه الخطوة تشكل تهديدًا مباشرًا لسيادتها وسلامة أراضيها.
وقال مادورو خلال جلسة للحكومة: "أقترح أن يتمّ فوراً تفعيل المناقشة في الجمعية الوطنية والموافقة على القانون الأساسي لإنشاء ولاية غويانا إيسيكيبو". كما أمر الرئيس الفنزويلي، خلال الجلسة نفسها، بأن يتم الشروع في الحال في "منح التراخيص لاستغلال النفط والغاز والمناجم" في هذه المنطقة، بحسب وكالة فرانس برس. وأوضح الرئيس مادورو أن حكومته ستستحدث فرعاً لشركة النفط الوطنية الفنزويلية العملاقة في "ولاية غويانا إيسيكيبو".
وسارعت غويانا إلى التنديد بقرار مادورو، إذ قال رئيسها، عرفان علي، في خطاب استثنائي إلى الأمة، إن ما أعلنه مادورو يمثّل: "تهديداً مباشراً لسيادة غويانا وسيادتها وسلامة أراضيها واستقلالها السياسي".
وأتى قرار مادورو بعدما صوّت الناخبون في فنزويلا بأغلبية ساحقة (95 في المئة) في استفتاء، على ضم هذه المنطقة الخاضعة لإدارة غويانا المجاورة إلى بلادهم. ونظمت كاراكس هذا الاستفتاء لـ"إضفاء شرعية" على مطالبتها بهذه المنطقة. وكانت كراكاس طالبت بالإقليم في مراحل مختلفة، كان أهمها في سنة 1966، حيث أعلنت ما تعرف بمحكمة جنيف أحقية غيانا به، ثم في العام 1970 قبل أن تدرجه جورج تاون على خرائطها الرسمية، وتعدّه جزءًا أصيلا من أراضيها ابتداء من دستور العام 1980.


بريطانيا استحوذت على أراضي فنزويلا


ازدادت مسألة الإقليم تعقيدًا في الآونة الأخيرة بعد أن بدأت الشركات الأمريكية بالتنقيب عن النفط فيه، مما أثار حفيظة الحكومة الفنزويلية. وبدأ الحديث في الأوساط الإعلامية عن احتمال إرسال البرازيل قواتها المسلّحة إلى المنطقة لضمان الأمن والاستقرار فيها. فهل حشدت الحكومة البرازيلية قواتها فعلاً على الحدود المشتركة مع غيانا وفنزويلا؟
تقول فنزويلا إن نهر إيسيكيبو الواقع شرق المنطقة، "يجب أن يشكل الحدود الطبيعية بين البلدين، كما أُعلن عام 1777، في ظلّ الحكم الإسباني"، لافتة إلى أن المملكة المتحدة "استحوذت على أراض فنزويلا بشكل خاطئ في القرن التاسع عشر". من جانبها، تؤكد غويانا التي تملك احتياطات نفطية هي من الأعلى في العالم للفرد، أن الحدود بينها وبين جارتها فنزويلا أقيمت في حقبة الاستعمار البريطاني وثبّتتها محكمة تحكيم عام 1899. ورفعت غويانا شكوى أمام محكمة العدل الدولية، تطلب فيها من أعلى هيئة قضائية أممية المصادقة على الحكم الصادر عن محكمة التحكيم. والمحكمة الدائمة للتحكيم (PCA)، هي منظمة دولية مقرها في لاهاي بهولندا، توفر للمجتمع الدولي خدمات متنوعة في مجال حل النزاعات، وقد تأسست عام 1899 نتيجة لمؤتمر لاهاي للسلام، مما يجعلها أقدم مؤسسة للتسوية الدولية.
لكن زعم المسؤولون الفنزويليون أن المحكّمين تآمروا لخداع بلدهم وسلبها تلك الأرض، وكشفت الأدلة المقدمة بعد عقود عن وجود مخالفات قانونية في عملية التحكيم أدت التبادلات الدبلوماسية اللاحقة إلى التوصل لاتفاق جديد عام 1966 ما أعاد اعتبار إقليم إيسيكيبو كمنطقةٍ متنازع عليها، وجرى تكليف الأمم المتحدة بحل النزاع، لكن ذلك لم يسفر عن شيء. بينما تقول غويانا إن الاتفاق الأوّلي عام 1899 يظل قانونياً وملزماً.
رفعت القضية إلى محكمة العدل الدولية، التي حكمت لصالحها نوعاً ما أو قضت باستمرار الوضع الراهن على الأقل، لكن هذه الأمور الفنية لم تمنع كاراكاس من المطالبة بالأرض التي يراها العديد من مواطنيها على أنها ملك لهم.

استفتاء شعبي 

أجرت فنزويلا استفتاءً، لتأكيد سيادتها على إقليم إيسيكيبو، ووافق نحو 95% من الناخبين الفنزويليين على المطالبة بالإقليم. وقال المجلس الانتخابي الوطني إنه أحصى أكثر من 10 ملايين صوت، وهم عدد المصوتين لصالح إيسيكيبو فاق الذين صوّتوا لإعادة انتخاب هوغو تشافيز عام 2012
التصويت جاء متبوعاً على الفور بحملة اعتقالات كبيرة لأولئك الذين عارضوا الضم بحسب المزاعم. كما لم يتضح بعد كيف ستفرض كراكاس نتائج التصويت، إذ لم تشهد أمريكا الجنوبية نزاع أراضٍ منذ أكثر من 75 عامًا.

المنطقة المتنازع عليها

يُعد إقليم إيسيكيبو موطناً لأراضٍ شاسعة من غابات الأمازون المطيرة، وبمساحة تعادل اليونان تقريباً. كما أنه غني بالرواسب المعدنية مثل الذهب والنحاس، ويقع الإقليم غرب نهر إيسيكيبو ويقطنه نحو 128 ألف نسمة يشكلون 16% من إجمالي سكان غويانا. لكن الكتب المدرسية والخرائط الحكومية الفنزويلية تعتبر إيسيكيبو من المناطق المتنازع عليها، وهذا هو الحال منذ الستينيات. لكن  جذور هذا النزاع تسبق ذلك بقرنٍ كامل، عندما كانت القوى الاستعمارية تحكم المنطقة.

اهمية الأقليم

يرجع أهمية الإقليم إلى الاكتشافات الكبيرة من الغاز والنفط في الإقليم، والتي بموجبها منحت حكومة غويانا تراخيص لبعض الشركات الأجنبية، مثل (إكسون موبيل) متعددة الجنسيات. 
وتقدر الاكتشافات بـ 11 مليار برميل، مما يفسر التحرك الفنزويلي الأخير، الذي قد يعزى إلى الظروف الاقتصادية الصعبة التي عانت منها البلاد بسبب سوء الإدارة وتفشي الفساد، بالإضافة إلى العقوبات الأمريكية.
من المتوقع أن تظل غويانا واحدةً  من أسرع اقتصادات العالم نموًا مع تسجيل معدلات نمو من خانتين في السنوات المقبلة. أصبحت على الطريق لتصير أغنى دول أمريكا الجنوبية على أساس نصيب الفرد
وتدفقت مليارات الدولارات على العاصمة جورج تاون منذ اكتشاف ثروتها الجديدة. وقد استغلت غويانا أموالها الجديدة لإنشاء مشروعات بنية تحتية كبرى، تبني الآن أول موانئها في المياه العميقة، وتطور منشآت جديدة للطاقة لمضاعفة إنتاجها الوطني من الطاقة
على المستوى الدولي، وأبرمت اتفاقيات لبيع نفطها للصين وقطر وماليزيا وربما الهند مستقبلاً.
وهكذا تتحول غويانا ببطء وثقة من منطقة معزولة جيوسياسياً إلى دولة نامية مع مستقبل واعدٍ أكثر في انتظارها، لكن كل ما يحدث يثير استياء فنزويـلا المجاورة، حيث تمتلك فنزويـلا أكبر احتياطيات نفط مؤكدة على وجه الأرض، متفوقةً بذلك على السعودية نفسها.
لكن التضخم المفرط في السنوات الأخيرة أعاق قدرة الحكومة على الاستثمار في الإنتاج وأثار أزمةً اقتصادية، ونتيجةً لذلك، تراجع إنتاج النفط منذ فترة ليست بالقصيرة. ففي العام الذي شهد اكتشاف غويانا للنفط
انخفض إنتاج فنزويـلا من 2.5 مليون برميل يومياً  إلى أقل من مليون برميل في اليوم. وإذا استمرت الأوضاع بهذا المعدل، فسيتفوق إنتاج غويانـا من النفط على إنتاج فنزويلا في غضون عقد واحد.
ولن يكون هناك أمر أكثر إذلالاً من ذلك بالنسبة لحكومة مادورو، وقد أثر التضخم المفرط على الحالة الاجتماعية والاقتصادية لفنزويـلا، إذ أفاد صندوق النقد الدولي بأن البلد عانى من أكبر زيادة في أسعار المستهلك على مستوى العالم هذا العام مع وصول معدل التضخم إلى 360%.
ولا عجب في أن شعبية مادورو قد تراجعت بينما يستمر تآكل قدرات الحكومة الفيدرالية بسبب الفساد، لذا فإن مادورو بأمس الحاجة إلى انتصار سياسي. ولهذا قد يمنحه إقليم إيسيكيبو تذكرة خروج من الفوضى الاجتماعية والاقتصادية.

توسع فنزويلا

وإذا استولت فنزويـلا على المنطقة، فستتمكن حينها من المطالبة بالثروات البحرية الموجودة في منطقة غويانـا الاقتصادية الخالصة، لكن العقبة هي أن الكثير من النفط الموجود قبالة ساحل غويانـا يقع في الشرق أي بمنأى عن نقطة تساوي البعد البحرية لايسيكيبو.
ومن أجل المطالبة بالنفط الموجود في الشرق، وسّعت فنزويـلا حدودها البحرية مع غويانـا بشكلٍ أحادي. حيث أنشأت مساحةً تُسمى منطقة الدفاع البحري الأطلسي المتكامل.
تقسم تلك المنطقة الممتلكات البحرية لغويانـا بشكلٍ مناسب
تقلص مياه غويانـا في الجرف البحري القاري.
يُذكر أن فنزويـلا ليست عضوةً في اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، ولا تعترف كذلك بالحدود البحرية الدولية مع غوياناـ لهذا فإن اعتبار مطالب فنزويـلا البحرية انتهاكاً للقانون الدولي هو أمر قابل للنقاش، لكنه يظل أمراً سيئاً بالنسبة لغويانـا في جميع الأحوال.
ولا شك أن مطالب فنزويـلا البحرية والإقليمية ستفيد الحكومة في كراكاس، حتى لو كانت مجرد خطاب سياسي، ولم تؤد لقتال مطلقاً. إذ أن المطالبة بالمنطقة رسمياً تمنح مادورو  فرصة تعزيز أوراق اعتماد حزبه الاشتراكي الموحد مع تصوير المعارضة السياسية على أنها خائنة وغير وطنية.

صراع أكبر من فنزويلا

 الولايات المتحدة مشتتة ومنهكة بسبب حرب أوكرانيا وحرب “إسرائيل” على غزة، وسيكون من الصعب على واشنطن مواجهة جبهة جيوسياسية جديدة في أمريكا الجنوبية. ستكون روسيا والصين وإيران أوائل المستفيدين من عملية عسكرية أمريكية ضد فنزويـلا. ويعد بوتين من حلفاء مادورو المقربين إذ اشترت فنزويـلا من روسيا معدات عسكرية بقيمة تتجاوز الـ12 مليار دولار حتى عام 2011
من المعروف أنه تضمن أنظمة إس-300 للدفاع الجوي، وهذا يجعل الدفاع الجوي الفنزويلي الأفضل في أمريكا الجنوبية.
ساعد بوتين مادورو على تعزيز سلطته في كراكاس
منح الأخير مصداقية سياسية على أقل تقدير أي إن روسيا قد تحاول الضغط على الفنزويليين وإقناعهم أنهم سيفلتون من العقاب بعد استيلائهم على الأرض الآن
سيكون فتح جبهة جيوسياسية جديدة أمراً كارثياً بالنسبة للولايات المتحدة. ولا تملك الولايات المتحدة -رغم قوتها- سوى عدد محدود من مجموعات حاملات الطائرات القتالية الجاهزة للنشر. لذا يبدو أن هذا الأمر مؤجلاً لاثارته من جانب واشنطن، حتى تفرغ من الأوراق الكبرى في أوكرانيا وغزة، لتعود  لترتيب أولويات معاركها في أمريكا اللاتينية، وستجد في إقليم اسيكيبو النفطي والغازي، ضالتها لدعم غويانا، في حرب قابلة للاشتعال، ستكون هي المستفيدة من هذا الصراع، أو على الأقل تشكيل أخطار على فنزويلا مهددةلاستقرارها ونموها وتطورها.