خالد الأشموري
إن كان للثقافة العربية دور تلعبه في مجتمع المعرفة، فلن يتحقق ذلك مالم تتعاضد المساعي بين مجالات المعارف العلمية والإنسانية، ومجال الإبداع الفني وما يثير القلق راهناً هو الحماس لدخول مجتمع المعرفة بالتحديث التكنولوجي دون الانتباه إلى ضرورة تنشيط الإبداع لتهيئة المجتمع للحداثة الثقافية.
ونظراً لما يواجهه الإبداع العربي من تحديات داخلية وخارجية علينا أن نتفق أن هناك أزمة في جوانب الانتماءات الثقافية، وكيفية الخوض في تجربة الحداثة التي أنماها الرواد مع بزوغ القرن الماضي .. مما أدى إلى فجوه في الإبداع الفكري والفني.. حيث تغيرت الأوضاع بدءاً من منتصف القرن العشرين نتيجة الضغوط الأيديولوجية المفروضة على الفنون من قبل حكومات ما بعد الاستقلال.
حول هذا الفن ومأزق الإبداع – تساءل الكاتب من مصر الدكتور ماري تريز- عن دور الفن التشكيلي في عالمنا العربي .. وهو بذلك يقول في مقال له بعنوان (فجوة الابداع في الفن التشكيلي العربي) (شبكة النت) ما معناه:
تتراجع أهمية الفن التشكيلي في العالم العربي لتضاؤل الاهتمام بتنمية القدرات الإبداعية وملكات الابتكار ، وكيفية تذوقه في مراحل التعليم المختلفة ، مما كان له أثر سلبي على احترام الفن، إلى جانب ذلك ، تتدخل مؤسسات غير مدنية في مناهج كليات الفنون، وتحظر بعض المواد الأساسية للتدريب الفني، كما تتعرض المطبوعات ، وصور الدعاية كافة، للرقابة في البلاد العربية بدرجات متفاوتة، وتعامل المطبوعات التجارية – الجادة والإباحية- والكتب الفنية على حد سواء، وفي ذلك خلط بين استخدام الفنون المرئية لأغراض جمالية أو وظيفية، واستغلالها للتربح.
وتعود أسباب التراجع في تنمية الخيال المبدع لدى المواطن العربي – كما أسلفنا – إلى تدهور المناهج التعليمية في مراحلها كافة، وازدواجية معايير القيم نتيجة القمع الفكري ، ورقابة المؤسسات التي تحولت إلى رقابة داخلية يمارسها المبدع على نفسه ، وكلها عوائق أمام انطلاق الخيال المبدع.. فبينما تزامنت الحداثة الفنية الأوربية مع التحديث العلمي في مجالات التعليم والسياسة والاقتصاد، لتشكل حداثة متكاملة، استغل التحديث الصناعي ثم التكنولوجي في البلدان العربية لخدمة السلطات وبدلاً من توفير السبل لتحرير العقل والخيال للإسهام في مجالات العلوم والفنون العالمية، اعتمد التحديث الجزئي على استيراد المصانع والتكنولوجيا الجاهزة دون تهيئة الجو الفكري الملائم لدراستها، مما أعاق قيام حركة حداثة فكرية وفنية متكاملة في المنطقة العربية.
هذا " التحديث المستورد" للتكنولوجيا وضع المبدع العربي في مأزق فإما الانسياق لتقليد المنجز الغربي، أو اختزال الهوية في التراث ظل هذا الصراع بين الأصالة والمعاصرة محتدماً – على مستويات متفاوتة – منذ بدايات القرن العشرين حتى الوقت الراهن – تبعاً للمتغيرات السياسية والثقافية، وقد عملت السياسات الاقتصادية الخاطئة على تضخيم التفاوت بين الدخول، والتباين في التحصيل العلمي والثقافي فلم يتهيأ المجتمع لاستيعاب التجريب، واحترام الابتكار والتجديد، مما ترتب عليه انعدام الحوار الثقافي، ومن ثم السياسي ظل هناك بعض الفنانين الساعين إلى استخدام الخيال لتمثيل الخصوصية المحلية للمشاركة في حركة الحداثة العالمية، إلا أن ذلك قد اقتصر على قلة تنتمي معظمها إلى النخبة أو إلى الثقافة المهيمنة مما أدى إلى الفصل بين المبدع والعامة، والتمييز بين الفنون الرفيعة والحرف، يدفعنا ذلك إلى التشكك في إمكان تحقق الحداثة، دون تحديث بالمجتمع فالتطور المجتمعي لا يتم فور استيراد التكنولوجيا المتقدمة، والخصوصية الفنية، التي تمكن من لحاق الفنون المحلية بالعالمية لا تتأتى بمحاكاة الغرب – من جهة – وتتجاهل أهمية التفاعل مع محيطها الثقافي، من جهة أخرى.
كما ترتبت على الفوضى السياسية تناقضات اجتماعية، وتفاوت في التعليم والتدريب الفني أنمى ذلك صراعات بين الحركات الفنية على الصعيد المحلي – بدلاً من الحوار وتبادل الخبرات كما أوجد الفساد السياسي الفرقة بين الفنانين دون توفير الفرص المناسبة للمنافسة الشريفة والتمثيل المتكافئ للأساليب الفنية في ساحات العرض المحلية والدولية إضافة إلى ذلك، ساعد استيراد برمجيات الجرافيك الإلكترونية واستخدامها دون تنمية الحس الفني الملائم على إنتاج كم هائل من المستنسخات المجمعة من مصادر مختلفة دون رؤية فنية خاصة، مما نجم عنه " تلوث بصري " ساعد على تدمير الحس الفني لدى المتلقين ولقد كان لتقدم وسائل الاتصال والإعلام والتصارع على صناعة النجوم دور في تزكية المنافسة غير الشريفة، التي رهنت قيمة الفنان بحنكته في العلاقات العامة، لا في ثراء خياله وصقل حرفته وهكذا امتدت الفجوة بين المبدع والمجتمع لتغدو بين المبدع ونظيره، وبدلاً من تأجج جذوة الابتكار، اشتعلت ساحات القتال، لتتحول بهجة الإبداع إلى التشفي بتحطيم الغريم.
تحديات الإبداع :
وفي زمن تتحكم فيه الوسائط الإعلامية المحلية والعالمية في تسيير سياسات السوق على جميع الأصعدة، لم تعد علاقة المبدع العربي بالعام تقتصر على النطاق المحلي، فحسب، ففي سياق التوجهات المتعدية للقوميات ، صار" العام " يشمل المجتمع المدني الدولي فمضت العولمة تتحدى القوى السياسية المحلية لذا امتد مفهوم المواطنة ليتعدى النطاق المحلي إلى العالمي ، فالفاعلية في المجتمع ينبغي أن تأخذ في الاعتبار الإنسانية جمعاء يثير هذا الواقع تساؤلات جديدة حول إمكان تحقيق الحوار العالمي المبني على التكافؤ في التمثيل الثقافي، في الوقت الذي لم تتحقق فيه المساواة، ولم تكتسب الحقوق المدنية على الوجه الأكمل في معظم البلدان على المستوى المحلي ! وعلى مايبدو فإن المحصلة النهائية لانعدام تكافؤ الفرص في هذا التمثيل الثقافي على المستوى المحلي هي إما بالهروب إلى الأسواق العالمية سواء كانت منافذها في الداخل أم في الخارج، وإما بالتمسك بصفحة واحدة من صفحات التراث لعدم استيعاب تعدديته، وفي كلتا الحالتين فنحن بصدد تقليد سطحي دون محاولة المبدع استشفاف رؤية فنية ذات حساسية لموضعها الثقافي.
وعلى الصعيد العالمي، تتعاظم الفجوة الثقافية بين المجتمعات المدنية التي تأسست فيها مبادئ المواطنة على الحرية الفردية – حرية العقل والخيال – والمجتمعات القبلية التي تحجم انطلاق الخيال، وتحجر على الفكر بالترهيب من العقاب في حاضر لا مهرب منه، ومستقبل يزيد غموضه في مخافة المرء ولكن ، ما يزيد الأمر تعقيداً والتباساً هو صعوبة الفصل الحاد بين المجتمعات المدنية والقبلية، فهناك تداخلات فكرية بين العوالم المدنية والقبلية، والممارسات القبلية لا تقتصر على العالم الثالث، بل توجد في العوالم على أختلافها، وكما تمارس الحداثة الفكرية والفنية – بشكل أو بآخر في المجتمعات القبلية، لا ينفرد – في المقابل – العالم الأول بالحداثة وكما أن هناك خلطا بين المجتمع المدني ومجتمع السوق على الصعيد الدولي ، فهناك – بالمثل – خلط بين التحديث والحداثة في المجتمعات القبلية، وهو الأمر الذي ينبهنا إلى أن تحديات الإبداع العربي – وإن كانت ترتهن بالظروف السياسية – لا تنفصل عن تحديات المبدع المعاصر أينما كان، فيما عملت سياسات السوق المحلية والعالمية عبر القنوات الإعلامية، وقاعات العرض الخاصة على تسليع الإبداع مما أعاق وصوله إلى قطاعات عريضة من جمهور المتلقين.. ومع انتشار وسائل الترفيه بالوسائط الرقمية، وإغراق السوق بالصورة الاستعراضية، تعمقت الفجوة الثقافية بين فئات المجتمع فاقتصر الفن الجاد على النخبة – وهو أحد أشكال خصخصة الثقافة التي تهدد انتشار الإبداع، ليتحول الفن – بدوره – إلى آلية من آليات التمييز الطبقي وتدعيم المركزية، وهو ما يتناقض وجوهر الإبداع الذي يعتمد على الرؤية المغايرة المقاومة للثوابت المؤسسية القائمة على التراتب والتمييز.. وبالحديث عن غياب الجمهور: لم تحسن وسائط الإعلام في تهيئة الجو الملائم لاستقبال الفنون من قبل جمهور المتلقين، مما أضاع فرصة تذوق المعالجات الفنية المتنوعة التي تزخر بها الفنون في المنطقة العربية، وعمق الفجوة بين المبدع والمتلقي وافتقاد أقسام تاريخ الفن والدراسات المرئية بالجامعات المختصة بالدراسات الإنسانية أفضى إلى غياب الحركات النقدية المتحاورة، والتعريف بالفن يقوم به، في معظم الأحيان، غير المتخصصين، وترتب على القصور في تنمية التذوق الفني غياب رأي عام نقدي واع بالقيم التشكيلية، ومن ثم افتقاد معايير التقييم، فليس هناك رأي عام يشكل قوى ضغط على المؤسسات الفنية، مما ترتب عليه سوء تمثيل الحركات الفنية في المعارض المتبادلة بين الأقطار نتيجة الشللية وتبادل المصالح بين القائمين على تنظيم هذه المعارض سواء كانوا تابعين لجهات حكومية أو غير حكومية، وهكذا تضاعفت العوامل المحبطة للهمة، ما بين افتقاد جمهور من المتلقين لديهم حس نقدي واع، وافتقاد عدالة التقييم من قبل المؤسسات بما يغدو مثبطا للخيال، ومعوقا لحرية الإبداع.
وفي غياب مفهوم المواطنة الحقة جرى اختزال المواطن ذلك المستهلك الخاضع، إما إلى سياسات السوق المعولمة، وإما إلى القوى المهيمنة لم يتبق هناك في ظل هذا الوضع مساحة ينطلق فيها خيال المبدع الذي هو أحد سبل مقاومة القولبة المفروضة، حتى وإن لم يكن للعمل الفني رسالة صريحة وصحيح أن يقال بأن الفجوة القائمة بين المبدعين والمتلقين ترجع إلى افتقاد ذوي الحس الفني المدرب القادر على استشفاف الرؤى الفنية المغايرة للواقع والأفكار الراسخة، بالإضافة إلى ظهور طبقة من المغامرين في أسواق الفن قد أدت إلى تسليع الفن ، في إطار حركة أوسع لخصخصة الثقافة، وذلك بعد أن صار المتحكم في الحركة الفنية المؤسسات الرسمية وغير الرسمية الراعية للفنون، فالعمل الفني تتحدد قيمته – في معظم الأحيان – بفعل مؤسسة تضفي عليه مكانة تفوق قدره.
مع ما سبق تسعى وسائط الإعلام التي تشكل الثقافة المرئية عبر الأقمار الصناعية وشبكة الإنترنت إلى عولمة الفنون وإخضاعها إلى سياسات السوق، خاصة بظهور صالات عرض رقمية تعمل على ترويج مفاهيمها الفنية الخاصة لخلق سوق فنية تعيد صياغة العلاقة بين الفنان والوسيط والمتلقي.
لقد خمدت ثورة الإبداع التي شهدتها بلدان عدة في المنطقة العربية في أوائل القرن العشرين باضطرار المبدعين إلى مساومة سلطة المؤسسات الراعية للفنون التابعة لسياسات السوق ومن ثم فقدت الحركة الثقافية في البلدان العربية فاعليتها، إذ أجهض محركها الرئيس وهو الإبداع فمن دونه يستحيل تفعيل أي نشاط ثقافي .