مايو 15, 2024 - 16:04
تزيد الأخطار الأمنية في المحيطين الهندي والهادئ.. هل يضيق الخناق على الصين ؟

توفيق سلاّم

تختلف الولايات المتحدة والصين في عدد من الملفات الثنائية والإقليمية والدولية المثيرة للجدل، وقد وقعت تلك الانقسامات في بؤرة الضوء فيما تقدمه واشنطن من مساعدات  عسكرية لتايوان، بلغت هذا العام بقيمة 8 مليارات دولار لمواجهة ما أسمته " عدوانية" الصين المتزايدة تجاه تايوان، وفي بحر الصين الجنوبي، فضلاً عن سحب الاستثمارات من الشركات الصينية في الولايات المتحدة، هو الأمر ذاته في أوروبا. ولازالت السلبية في العلاقات تتزايد لتهديد الأمن الصيني، في منطقة بحر الصين الجنوبي، ومحاربة المصالح الصينية مع دول الإقليم والعالم، والتدخل في الشؤون الداخلية للصين من خلال دعم تايون، بالرغم من الخطوط الحمراء التي وضعتها الصين بشأن سيادة الصين ومصالحها التنموية، وحق الصين في إقامة علاقات مع الدول بصورة مشروعة.

محاصرة الصين

في العام 2022 نشر البيت الأبيض في عهد بايدن استراتيجية للأمن القومي نصت على أنه "لن تكون هناك أية منطقة في العالم أكثر أهمية للأمريكيين من منطقة المحيطين الهندي والهادئ"، وأكد الكونجرس في عام 2024 على تعزيز الشراكات الدفاعية للولايات المتحدة في المنطقة المذكورة، مع دول شرق آسيا كوريا الجنوبية، واليابان والفلبين، وذلك لمواجهة المنافسة الاستراتيجية مع الصين.
ورغم هذه الاستراتيجية المعلنة، لا يزال التمويل العسكري الخارجي الأمريكي السنوي يذهب بأغلبية ساحقة، كما كان الحال منذ عقود، إلى دول في الشرق الأوسط. فالمستفيدون من هذا السخاء هم الشركاء الأمنيون منذ فترة طويلة، إسرائيل ومصر والأردن. ومن بين ما يقرب من 13.2 مليار دولار وضعها الكونجرس في حساب التمويل العسكري الأجنبي في السنة المالية 2024، تبلغ حجم المساعدات الأمنية لمصر حوالى 1.3 مليار دولار سنويًا، ولإسرائيل 6.8 مليار دولار. لكن المسرح ذو الأولوية بالنسبة لأمريكا، هي منطقة المحيطين الهندي والهادئ فلا يتلقى أكثر من 2% من المساعدات المالية.

بناء قوات مشتركة 

صرح وزير القوات الجوية الأمريكي فرانك كيندال مؤخرًا، وقال:" أولوياتنا القصوى هي الصين، وأنه  لم يعد لدينا الوقت".
في مارس الماضي أدلى الأدميرال جون أكويلينو، قائد القيادة الأمريكية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، بشهادته أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأمريكي قائلاً إن "جمهورية الصين الشعبية، هي الدولة الوحيدة التي تمتلك القدرة على قلب النظام الدولي رأساً على عقب". حاليًا تمثل الصين تحديًا كبيرًا للولايات المتحدة، وقوة نووية سريعة النمو، تحاول الولايات المتحدة أن تضع المزيد من الأموال في مسرح المحيطين الهندي والهادئ لبناء قوة مشتركة مرنة، قابلة للتشغيل المتبادل مع حلفائها وشركائها في تلك المنطقة الاستراتيجية الكبرى لمواجهة الصين. وهذا يتطلب من وجهة النظر الأمريكية، إعادة تكييف سياسات المساعدات العسكرية الخارجية الأمريكية لمنطقة المحيط الهادئ والهندي وهذا أمر صعب. ووفقاً لخدمة أبحاث الكونجرس، فإن إسرائيل هي أكبر متلق للمساعدات الخارجية الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية. وفي تلك الفترة، قدمت الولايات المتحدة لإسرائيل ما مجموعه 300.5 مليار دولار معدلة حسب التضخم. كما جددت الولايات المتحدة أيضًا مذكرة التفاهم الثالثة التي مدتها عشر سنوات مع إسرائيل حتى عام 2028، والتي تتعهد بمبلغ 38 مليار دولار أخرى من المساعدات العسكرية، بما في ذلك 33 مليار دولار من التمويل العسكري الأجنبي.
وعلى الرغم من الصراعات المستمرة بين إسرائيل وإيران وحماس، وكذلك مع  اليمن في جبهة البحر الأحمر، إلا أنه لا يوجد صراع في الشرق الأوسط يهدد الولايات المتحدة وجوديًا. فإيران اليوم أصبحت قوة كبيرة تنافس على الهيمنة الإقليمية، وليس العالمية. وفي أوروبا حلفاء حلف شمال الأطلسي، يبدو أنهم غارقون في تسريع الإنفاق لتعزيز استعدادهم الدفاعي وتمويل المزيد من المساعدات العسكرية لأوكرانيا، وتحمل المزيد  من عبء الأمن الأوروبي، وتحرير الموارد الأمريكية لدعم الحلفاء والشركاء في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.

استراتيجية متهورة 

تسعى إدارة بايدن تعزيز نفوذها عبر دول المحيطين الهندي والهادئ في مواجهة الصين، وهذه  استراتيجية متهورة في منطقة يكاد فتيلها قابلاً للاشتعال. فواشنطن تعزز نفوذها من خلال وكلائها في الإقليم، لخوض معاركها مع الآخرين. فهي تحاصر الصين إقليميًا، من خلال وكلائها الإقليميين، أو من خلال إنشاء تحالفات عسكرية صغيرة.. أي أنها لا تتبنى سياسة إقليمية منضبطة لتأمين مصالحها. 
فأمريكا منذ العام  1820 وحتى نهاية القرن أمنت جغرافيتها بحدودها من كافة الاتجاهات، فمن الشرق محيط، ومن الغرب محيط، ومن الجنوب أمريكا الوسطى وأمريكا اللاتينية، ومن الشمال كندا، أي أنها على تماس حدودي مع حلفائها، وقالت لن نسمح بأي قوة عسكرية تهدد أمن أمريكا، وأمن سيادة الدولة، وهذا ما يسمى بالمفهوم الجيوبولتيكي، كشرط لاستراتيجية التمدد والتوسع خارج الجغرافية الأمريكية للسيطرة والنفوذ على المناطق ذات الثروة والأهمية الاستراتيجية. والفكرة هنا هو مفهوم استعماري لإزدهار دولة المستعمر على حساب المستعمرات، من خلال نهب مواردها، أو احتواء قدراتها، وتشكيل أخطار عليها في محيطها الجغرافي والإقليمي، كما هو حاصل الآن مع روسيا والصين وكوريا الشمالية وحتى مع الهند وإيران.. وفي مقابل ذلك لا يوجد من يهدد أمريكا في محيطها الإقليمي. صواريخ خليج الخنازير في كوبا التي نصبها الاتحاد السوفيتي في ستينيات القرن الماضي ردًا على الصواريخ التي نصبتها أمريكا في قاعدة انجراميك في تركيا، كانت التوترات حينها يمكن أن تفضي لحرب نووية بين الدولتين. وهذا يعني أن أمريكا لا تسمح بتهديد أمنها القومي، بينما هي من تهدد الأمن والاستقرار العالمي. فقد طوقت على روسيا من كافة الاتجاهات بالحلفاء، وبقواعد حلف الناتو، والآن تريد تدميرها، من خلال إنشاء قواعد عسكرية لحلف الناتو، في محيطها وعلى جوارها الحدودي، وتعمل نفس الشيء مع الصين فهناك قواعد عسكرية أمريكية في الفلبين وكوريا الجنوبية واليابان. هذه المعادلة في التوازنات الجيوبوليتيكية، تهم روسيا والصين بدرجة رئيسة، وهذا ما يتطلب إنشاء تحالفات عسكرية موازية،  على الأقل إقليميًا، وخصوصًا في المناطق ذات الجوار الإقليمي مع أمريكا، ولابد من توسيع مجموعة بريكس، وإنشاء عملة موحدة بديلة عن الدولار الأمريكي. 
إحدى الرسائل المهمة  لزيارة رئيس الوزراء الياباني كيشيدا فوميو والرئيس الفليبيني فرديناند ماركوس إلى الولايات المتحدة، هي أن الأخيرة على استعداد للتضحية من أجل الصخور والشعاب غير المأهولة في بحر الصين الجنوبي.
في الواقع ليس للولايات المتحدة مصلحة حيوية في نتيجة النزاعات الإقليمية في جزر (سينكاكو/دياويو) أو في بحر الصين الجنوبي. فهذه الجزر غير مأهولة وصغيرة الحجم، وليس لها قيمة استراتيجية تذكر. والمواقع العسكرية في هذه المناطق المتنازع عليها معرضة بشدة للهجمات، وتواجه كوابيس إعادة الإمداد، والقضايا البيئية المتأصلة. إضافة إلى أن حرية الملاحة في بحري الصين الشرقي والجنوبي تشكل مصدر قلق للصين، فمن غير المرجح أن توقف بكين التجارة، فهي المستفيد الرئيس، ناهيك عن أنه يمكن إعادة توجيه التجارة بتكلفة مالية، ولا داعي للتضحية بالأرواح أو تدمير العالم من أجل سلع أرخص قليلاً.
إصرار الرئيس جو بايدن على معاهدات الدفاع الأمريكية مع اليابان والفلبين التي تغطي جزر (سينكاكو/دياويو) والنشاط العسكري الفلبيني في بحر الصين الجنوبي يزيد من التوترات ويخاطر بالصراع مع الصين. وتنظر بكين إلى النزاعين على أنهما مصالح حيوية. وعلى هذا النحو، فإن الصين مستعدة للمخاطرة بالحرب لتأكيد مطالبتها إذا لزم الأمر. وقد أصبحت بكين أكثر حزماً بعد أن أعلنت واشنطن عن "محورها نحو آسيا"، خوفاً من أنها قد تفقد فعلياً مطالباتها الإقليمية، ولن يختفي تأكيد الصين مع وجود علاقات أقوى بين الولايات المتحدة واليابان والفلبين، ولكن من المرجح أن يتكثف لاختبار العلاقة ومحاولة ردعها. فضلاً عن ذلك فإن الضمانات الأمنية المقدمة لليابان والأراضي المتنازع عليها في الفلبين تشجع السلوكيات المحفوفة بالمخاطر. ولعل ما فاقم الصراع مع الصين هو تأميم اليابان لجزر (سينكاكو/دياويو) في عام 2012. وقد يخفف إلغاء تأميم الجزر وتنظيم ملكيتها التوترات، ولكن الأمر غير مطروح على الطاولة طالما أن واشنطن تؤيد مطالبات اليابان.
وعلى النقيض من ضبط النفس الذي تمارسه اليابان، شهدت الفلبين توترات متزايدة مع الصين في ظل إدارة ماركوس، حيث رفضت مانيلا التنازلات التي قدمتها الصين للتنمية المشتركة في بحر الصين الجنوبي واختارت توسيع العمليات العسكرية في المنطقة. وسمحت للقوات الأمريكية بالوصول إلى المزيد من القواعد في شمال الفلبين. وأصبح هذا النشاط العسكري الأمريكي يفرض في المنطقة ضغوطًا على بكين للرد، مما يزيد من خطر وقوع حادث يمكن أن يتحول إلى صراع، لاسيما مع انجرار الولايات المتحدة إلى تصعيد التوترات بين اليابان والفلبين من جهة، ضد الصين، فإن واشنطن تخاطر بخسارة منطقة المحيطين الهندي والهادئ. في حين أن العلاقات مع اليابان وأستراليا ونيوزيلندا من المرجح أن تنجو من الصراع. وللمرة الأولى، قد تختار النخب في جنوب شرق آسيا بكين بدلاً من واشنطن إذا اضطرت لذلك.
لكن السؤال: لماذا تلجأ الولايات المتحدة للحروب، وإذكاء التوترات وتصعيد الصراعات في مناطق عديدة من العالم؟ للإجابة على هذا التساؤل نقتبس رؤية المحلل  السياسي الكسندر نازاروف، الذي يقول:" إن الشرط الرئيس هو النصر العسكري (لك أو لسيدك، إذا ما استخدمنا المصطلحات الاقطاعية).
ويرى المحلل السياسي نازاروف إن "الرخاء الاقتصادي، يعتمد على مكانة أي دولة في التقسيم الدولي للعمل، وعلى حجم السوق المتاحة لها. بالرغم من أن التنمية الاقتصادية ضرورة هي الأخرى، إلا أنها ثانوية، ومشتقة من العاملين المذكورين أعلاه، واللذين لا يتحققان إلا بالانتصار العسكري على المنافسين".

إزدهار الغرب

وحول مسألة إزدهار الغرب يرى نازاروف بأن إزدهار الغرب "يعتمد فقط على قوة السلاح، وعلى الانتصارات العسكرية الماضية، التي مكنته من الاستيلاء على المستعمرات أولاً، ثم هزيمة وإخضاع القوى الأخرى المتوسعة. وفي رأيه " لا تشكل الديمقراطية، شرطًا للنمو الاقتصادي، بل على العكس من ذلك، هي مشتقة من الرخاء الذي يتحقق بالوسائل العسكرية". ويوضح نازاروف بأن ذلك يأتي نتيجة "القوانين المتساهلة نسبيًا مع المواطن العادي، التي نراها في الغرب، تلجأ إلى العنف أقل من غيرها فقط، لأن المجتمع الغني أقل تمردًا، ويمكن السيطرة عليه بشكل رئيس من خلال غسيل الدماغ".
ويطرح نازاروف بنفسه السؤال للقارئ: وماذا عن اليابان وألمانيا وأوروبا بشكل عام، لقد خسروا الحرب، إلا أنهم يعيشون بشكل جيد؟
ويجيب "لقد تم تدمير العالم والصناعة العالمية كنتيجة للحرب العالمية الثانية، باستثناء الولايات المتحدة، التي حصلت على المورد الثاني المهم "الوصول إلى الأسواق العالمية" أكثر مما تستطيع هضمه. وقد استغلت الولايات المتحدة الموقف بحكمة، حيث أتاحت الوصول إلى الأسواق التي تسيطر عليها البلدان التابعة لها، والتي كانت مهمة بالنسبة للولايات المتحدة في سياق المواجهة مع الاتحاد السوفيتي. فكان على ألمانيا الغربية أن تثبت لجارتها الشرقية مزايا الرأسمالية، والتحالف مع الولايات المتحدة، وأن تثبت كوريا الجنوبية للشمالية ذلك، واليابان كانت مهمة باعتبارها العدو الأبدي للصين وروسيا. وأخيرًا، فقد أتاحت واشنطن للصين الشيوعية الوصول إلى التكنولوجيا الأمريكية، والأهم من ذلك إلى السوق، من أجل انتزاعها بعيدًا عن الاتحاد السوفيتي.. لكن قدرة الولايات المتحدة على تقاسم السوق انتهت. وعلاوة على ذلك، فقد قامت الولايات المتحدة برشوة الصين من خلال منحها جزءًا من حصتها، ما أدى إلى خسارة جزء من الصناعة، وهو السبب وراء نية ترامب استعادة الصناعة في الولايات المتحدة، وكان بوسع الدول الصغيرة، التي كانت لسبب ما مهمة بالنسبة للقوة المهيمنة على العالم.
في النصف الثاني من القرن العشرين، كان ممكن على الصين، أن تبيع ولاءها لواشنطن مقابل الحصول على مكان متميز نسبيًا في التوزيع الدولي للعمالة، التي تسيطر عليها الولايات المتحدة، والآن انتفى هذا الاحتمال أيضًا، وأظهرت أوكرانيا غباءً شديدًا بالقفز في القطار المتجه نحو الهاوية. وبالعودة إلى عام 1985، وكجزء من اتفاقية Plaza Accord، أرغمت الولايات المتحدة ألمانيا الغربية واليابان على الحد من قدراتهما التنافسية من خلال المبالغة في قيمة عملتيهما بشكل مصطنع. فالحكومة اليابانية هي أكبر مدينة في العالم، لكن اليابان هي أيضًا أكبر دائن للولايات المتحدة، وكذلك الصين والمملكة المتحدة. وهو ما يعني أن هذه الدول، وغيرها من الدول أيضًا، تدفع للولايات المتحدة للحصول على مكان في النظام الأمريكي.
وقد بذلت واشنطن، أثناء الزيارة الأخيرة التي قامت بها وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين مؤخرًا إلى الصين، محاولة أخيرة لإرغام الصين على اتباع مصير اليابان، إلا أن محاولاتها قوبلت بالرفض. الآن أصبحت الحرب حتمية بالتأكيد، مسألة وقت، أو قل بالأحرى إن تدمير أحد الطرفين أمر لا مفر منه، بطريقة أو بأخرى، إما بالحرب، أو من خلال زعزعة الاستقرار الداخلي.

 اخضاع الصين 

 الولايات المتحدة تجد نفسها في فخ غريب، فخلافًا لما كانت عليه الحال في القرن العشرين، فإن صناعتها تشغل حجمًا سوقيًا أصغر، حتى من سوقها المحلية. والنخبة الأمريكية تخلت عن الصناعة لصالح طبقة أعلى من الهرم "القطاع المالي"، ما يوفر لها أرباحًا فائقة، لكنها ليست كافية لبقاء ما تبقى من الولايات المتحدة الأمريكية.
ويتناول نازاروف بالشرح   ظروف الثروة بإسهاب وبالتفصيل، حتى يفهم القارئ أن الصين تستطيع أن تفوز بهذه الحرب، لكن الولايات المتحدة، لا تستطيع ذلك، حتى وإن دمرت الصين. فهو يقول:" الصين تتمتع بصناعة قوية، مبنية إلى حد كبير على القروض، وتتطلب أسواقًا جديدة، والولايات المتحدة لا تفتقر إلى صناعة تنافسية جاهزة للتوسع السريع فحسب، ولكنها أيضًا غير قادرة حتى على إحياء هذه الصناعة. وللقيام بذلك، تحتاج الولايات المتحدة إلى خفض سعر العمل بشكل كبير، أي خفض مستوى المعيشة في الولايات المتحدة، وهو أمر مستحيل، أو بالأحرى من الممكن خفض مستوى المعيشة، ولكن بعد ذلك ستنشغل بحربها الأهلية وانهيارها، وليس بالمنافسة مع الصين، ويضيف" لقد انتقلت الولايات المتحدة على نحو لا رجعة فيه إلى مستوى أضيق من الطفيليات، التي تتغذى على التدفقات المالية. ومن أجل البقاء تحتاج إلى متبرع سمين وصحيح البدن كالصين. ولا يمكنها تدمير الصين دون تدمير مصدر غذائها، فضلاً عن ذلك، فإن خسارة الصين سوف تؤدي على الأرجح إلى انهيار اقتصادها، ما يعني توقفها في كل الأحوال عن كونها جهة مانحة للولايات المتحدة. بالنسبة للولايات المتحدة، ليس هناك سوى خيار واحد فقط مقبول ومناسب وهو إخضاع الصين، ولكن ليس تدميرها. من المستحيل أيضًا استبدال الصين بالهند وفيتنام وغيرها، من الدول كجهات مانحة، فالأسواق العالمية مشغولة، وهناك فائض في الإنتاج، والذي سيتم القضاء عليه قريبًا مع انهيار هرم الديون العالمية. ولا تستطيع الولايات المتحدة أن تمنح الهند أي شيء آخر سوى بقايا سوقها الخاصة، والتي هي أولاً صغيرة نسبيًا، وثانيًا ستقضي أخيرًا على الولايات المتحدة. وسوف تحتاج الهند إلى عدة عقود من الزمن لتتحول إلى ورشة عمل العالم، وخلال هذه الفترة سيكون لدى الولايات المتحدة الوقت الكافي للموت عدة مرات بسبب مشكلاتها الداخلية.
بهذه الكيفية، فإن النصر العسكري الذي قد تحققه الصين سيعيدنا إلى نهاية القرن التاسع عشر من حيث مرحلة العولمة. سيكون هناك العديد من المناطق الاقتصادية المتنامية الكبيرة المستقلة مع أنظمة تقسيم العمل الخاصة بها في الصين والهند، وعلى الأرجح روسيا، وربما إندونيسيا أو البرازيل. وفي غضون عقود قليلة، سوف يخوض العالم حربًا بين هذه القوى، أو عدة حروب، حتى تبقى واحدة منها، مثل الولايات المتحدة، في نهاية القرن العشرين، ثم بعد ذلك تتكرر الدورة. وفي حال تحقيق انتصار عسكري أمريكي، فإن العودة إلى الوضع السابق أمر مستحيل. ولن يقتصر الأمر على انهيار الصين، وربما روسيا، بل وأيضًا الولايات المتحدة نفسها. سيكون هناك نقص عالمي في السلع، وسيدمر التضخم العالمي رأس المال والمدخرات، وسيتم تدمير جميع سلاسل الإنتاج الدولية، وفقدان عدد من التقنيات، بما في ذلك إنتاج أجهزة الكمبيوتر الحديثة.
ستكون هناك عصور مظلمة جديدة، واحتمالات حدوث ذلك كبيرة أيضًا، لأن الولايات المتحدة قد تقرر أخذ العالم بأسره معها إلى القبر إذا خسرت أمام روسيا والصين. وأعتقد أن احتمال نشوب حرب نووية مرتفع للغاية، أو بالأحرى، فإني متأكد من أنه سيتم استخدام الأسلحة النووية، لكن السؤال الوحيد هو على أي نطاق؟
الولايات المتحدة توقف الهجوم الإسرائيلي على إيران لتبدأ تصعيدًا مع الصين. مع ذلك، فهناك خيار آخر وهو إحياء الإمبراطورية البريطانية، أو بالأحرى، إنشاء إمبراطورية أنجلوسكسونية على أساس الولايات المتحدة (أو ما يتبقى منها من الولايات الشمالية التي ستنفصل نتيجة للحرب الأهلية) وأجزاء من الإمبراطورية البريطانية ذات الثقافة الأنجلوسكسونية المهيمنة. وفي هذا الخيار، تحتاج الولايات المتحدة إلى ضمان حرق أوروبا، وتحويلها إلى صحراء مشعة، مع انتقال مئات الملايين من العمال المهرة إلى الولايات المتحدة، ما من شأنه أن يزود الولايات المتحدة بالعمالة الضرورية الرخيصة للغاية، ويعيد التوازن العنصري إلى الهيمنة البيضاء. ومع هذا الخيار، هناك احتمال أن النصر الأمريكي لن يعني نهاية المرحلة الراهنة من الحضارة الإنسانية.
قد يبدو هذا الخيار كنظرية مؤامرة، إلا أن تنفيذه لن يكون أصعب من إنشاء إسرائيل، لذا لا أستبعده".