مارس 23, 2024 - 16:54
ماذا تبقى من سيادة الأوطان يا عرب؟

توفيق سلاّم

 ظلت مخططات الغرب في مختلف فترات التاريخ هو استعمار الشعوب، والاستحواذ على ثرواتها والتحكم في مصيرها، وفكفكة الدول من الداخل، وتاريخيًا فرض الاستعمار الأوروبي سياسة القوة والعنف المفرط في غزو واحتلال البلدان، وأحيانًا كان يلجأ إلى استخدم سياسة الترهيب والترغيب، وشراء الذمم، بينما تكون سفنه وجيوشه في المياه الإقليمية جاهزة للهجوم على البلد المعني.
 ولجأ الأمريكان إلى نفس الأسلوب تقريبًا، بقوة القهر المباشر كما حدث في فيتنام وافغانستان، والعراق وسوريا وليبيا، أو بالتحالفات العسكرية الإقليمية كما حدث على اليمن، وأحيانًا بواسطة أدوات الحرب الناعمة، وقتل "الذات" المجتمعية وإفراغ كل علاقة "ثقة" بين الشعب والدولة، وهو الأمر الأساسي في لعبة السيطرة واستراتيجية نزع سيادة الشعوب عن أوطانها، من خلال أجندة التدمير الذاتي، في استراتيجية ما تسمى بالحروب المتقدمة،  وتنصيب حكومات موالية، حيث مهمة الحكام تبدو وظيفية لأجندة المستعمر، ومختزلة في ترسيخ قناعة لدى شعوبها بأن الشعب أصبح من رعاياها، بعد سلسلة من الاتفاقيات ليصبح البلد مرتهنًا للغرب وتحت الهيمنة الأمريكية، وهو الأمر الذي ألغى أهم عامل وعنصر في إنشاء الدول واستمرارها، والمتعلق أساسا بعامل السيادة. فالثقة بين الحاكم والمحكوم، إذا ما انتزعت، ألغت كل مفهوم للانتماء والارتباط الروحي، قبل الجسدي، بالمكان، كيانًا ومكوّنًا.. وبالتأكيد سيكون آثارها قاتلة على مستقبل المجتمع. خاصة عندما يكون الحاكم بعيدًا عن أي مؤسسات ديمقراطية، ويختزل الدولة والمجتمع في شخصيته، والأخطر من هذا وذاك عندما يكون الحاكم أداة للخارج، ومن هنا تبدأ الدولة تفقد سيادتها ومن هنا تبدأ النكبة في عوامل التخلف، وضرب وفكفكة عناصر قوتها من الداخل. وعادة ما يكبل المستعمر الدول باتفاقيات أو علاقات اقتصادية ودبلوماسية وسياسية وعسكرية تجعله مرتهنًا له، وغير قادر على اتخاذ أي قرارات، حتى ما يخص الجانب السيادي أو الأمن القومي للبلد. لهذا نجد العرب لا يهمهم ما يحدث من حولهم، وهم يبررون ما يحدث في فلسطين يخص الشعب الفلسطيني، بل يبرر البعض ما وصل إليه البلد من نعمة الاستقرار، بسبب اتفاقيات السلام. وكأنه يقول ما دخلنا نحن، وقد تجرعنا الكثير، وقدمنا الكثير من التضحيات في حروب سابقة، وكأن تلك الأحداث خطيئة تاريخية. هذا الخطاب السياسي تخدير وقتي، لاقناع الشعب بأنهم في مأمن من ما يجري حولهم، وأن الضر لم يمسهم. وهنا تكمن حالة الفصل التاريخي والديني والعروبي والقومي والانساني فيما يحدث في غزّة من جرائم إبادة جماعية، وبين تفاعل الإنسان العربي المسلم الذي تمس كرامته، وحقه في التضامن مع أخيه المسلم في خندق المواجهة. 


مجازر غزة لم تغير قناعات القادة العرب
 
غير أن الملاحظ أن مجازر الابادة الجماعية للفلسطينيين في قطاع غزة، لم تغير قناعات القادة العرب، مازالوا على عهدهم مع كيان الإحتلال، يمارسون نفاقًا وكيدًا سياسيًا تشعر معه بالتقزز والقرف. وتحت أجواء القهر والتآمر والخذلان والانكسار والذل والتبعية المفرطة التي تأبى أن تغادرنا بسبب تصرفات هؤلاء الحكام، ودعمهم الذي لا يتوقف للصهاينة.. 
جرائم الصهاينة والامريكان بحق الشعوب العربية كثيرة جدًا، فهم من قام  بابتزاز مصر عندما ما أممت قناة السويس، 
واعتدوا على العراق وارتكبوا مجازر ضد الإنسانية، في العديد من البلدان، وكان سجن أبو غريب قمة بشاعة جرائمهم. دمروا وفكفكوا الدول من العراق إلى لبنان وسوريا وليبيا واليمن وافغانستان، وإلى يوغسلافيا، والاتحاد السوفيتي، واليوم الصهاينة وحلفاءها الامريكان والأوروبيين
يسلبون فلسطين من أهلها، ومحاولة تشريدهم إلى أشتات الأرض وتخطط أمريكا لإنشاء رصيف بحري عائم لهذا الغرض.

الصهاينة يذبحون الشعب الفلسطيني في مجازر إبادة جماعية بطريقة عمدية ومستفزة للإنسانية  وقادتنا العرب يزودوا الإحتلال بكل ما يحتاجه من النفط ومشتقاته، حتى تتمكن آلة الحرب الصهيونية من قتل المزيد من أطفال غزة ونسائها، وتدمير مالم يتمكن العدو تدميره. وللأسف بيد هؤلاء العربان قرار وقف إطلاق النار.. فقط لو امتلكوا الشجاعة الكاملة، وقرروا إنهاء التطبيع مع إسرائيل، هذا القرار، يشكل لإسرائيل نكبة وكارثة تعيدها لمربع الصفر من المكاسب التي حققتها بالتطبيع، إذ تعتبر نفسها جزءًا من النسيج العربي التي تدفع بها أمريكا أن تكون عضوًا في الكتلة العربية، بل ودولة محورية في الهيمنة على العرب والمسلمين. فإسرائيل يستحيل أن تخسر هذه الورقة السياسية، لن تغامر بمواصلة الحرب إذا ما قررت الدول المطبعة إنهاء التطبيع معها، فورًا ستعلن الانسحاب. أحد الأهداف السياسية لطوفان الأقصى وقف التطبيع مع السعودية. فلسطين كانت منسية في قاموس هؤلاء، وهي اليوم من تعيد قضيتها إلى واجهة التاريخ، وتدفع دم ابناءها، على مذبح حريتها واستقلالها، لايقاف هذا التغول الاستعماري، وهذا التجريف للأرض والإنسان والتعدي على الكيانات التاريخية الأصيلة، وطمس الهوية والحضارة العربية.
 
 يالهذا التواطؤ والتخاذل والغوص في مستنقع الإذلال والمهانة.
لم يشبع بعض العربان حتى اللحظة من رؤية الآلاف من الشهداء والجرحى الفلسطينيين، ماذا يريد هؤلاء من الشعب الفلسطيني أكثر مما جرى في غزة، وهو يسطر في كل لحظة ملاحمه البطولية الاستثنائية ضد عدو يحظى بكل وسائل الدعم والمساندة عربيًا وأمريكيًا وأوروبيًا؟ وإلى أين يقودونا من اختار طريق التصهين والتطبيع والتطويع؟ 
وإلى متى يمارس العربان الكذب والتدليس والبيانات، ويتحركون لخدمة إسرائيل لمسألة الهدن لإطلاق سراح الأسرى..!
عربان هذا الزمان، يتحالفون مع الصهاينة دون استحياء، ولا خجل، زيارة بلينكن ترى ماذا يريد منها، بعد كل هذا الفشل المخزي لإسرائيل وأمريكا؟  يريدون من السعودية ومصر اقناع المقاومة الفلسطينية بالتخلي عن سلاحها، ومغادرة أرضها، ووقف الهجمات اليمنية على السفن الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية لفك أزمة إسرائيل.. يبدو الآن ليس بيد أحد ما يفعله، فتفاهة هؤلاء لا تحتمل أمام قطرة دم طفل فلسطيني، وهم يبحثون عن نصر لإسرائيل على حساب دماء الفلسطينيين وتضحياتهم. الوقت يمضي، والمقاومة ثابتة وراسخة على أرض غزّة، وهذا بالطبع يثير فيهم  الحنق والغضب، خشية على مواقعهم.

تذكروا يا عرب

 تذكّروا بأن واشنطن تخلّت عن أشد حلفائها، من شاه إيران وصولا لأنور السادات ورئيس أفغانستان الهارب أشرف غني، وقبل ذلك زين العابدين بن علي وغيرهم، وقريبًا سيكون مصير هؤلاء بالمثل.
نعود إلى حالنا اليوم، حال الأمة العربية من خليجها "المغتصب" إلى محيطها المنتهك، لنسأل، هل توجد دولة واحدة، يمكنها أن تدعي أن لها بعضًا من السيادة على قرارها السياسي إذا استثنينا الجزائر وسلطنة عمان ومحور المقاومة؟
ما يحدث من مجازر في غزة، يكشف بجلاء عن عجز المؤسسات الدولية القيام بدورها، وتفشي ظاهرة الفوضى، في استخدام العنف المفرط، ذلك هو الجنون ووهمه وغطرسته الذي سقط تحت أقدام المقاومة وصمود الشعب الفلسطيني الحر.. غزة تدفع الثمن، جثثًا ومجاعة، لتزيل من على ظهر الأنظمة، كل ما سبق من أوهام سيادة، لم ترها الشعوب، إلا في "غزة" الصامدة وحدها. 
يبدو أن القادة العرب لن ينسوا ما بقوا أحياء أبدًا مقولة نتنياهو التي وجهها لإهانتهم في اجتماعهم بالرياض، عشية المحرقة والمجزرة الصهيونية، عندما خاطبهم باستعلاء: "المطلوب من الحكام العرب، أن يصمتوا"، والمؤكد أن الجميع بلع لسانه، لينفض اجتماعهم، ويتفرقوا باحثين عن أعذار ومبررات وتفسير لنيتهم خارج ما هو مسموح به من طرف صاحب الأمر والنهي..!
غزة يا سادة، ستنتصر وهي اليوم تصنع ملحمة بطولية نادرة في التاريخ، لاستعادة كرامة المواطن العربي أرضه وتاريخه وحضارته.. غزة تستعيد مجدها وعلوها وكرامتها واستحقاقها التاريخي على أرضها، وسيحفظ لها التاريخ مكانتها، أنها جَبّت كل ما قبلها وما بعدها من كلام عن سيادة حاكم. وإذا ما فكر العدو باجتياح رفح سيكون أمام الشعوب العربية، مسؤولية تاريخية ودينية وقومية وإنسانية   بانتفاضات شعبية، ضد حكومات التطبيع لالغاء قرار التطبيع الذي منح لاسرائيل الضوء الأخضر في كل هذه الغطرسة.  هؤلاء الأتباع، لم ينالوا حتى شرف أن يكونوا ندماء في مائدة نتنياهو، وهو ما أكدته مجزرة الخمسة أشهر الصهيونية بحق مواطني غزة، التي خرجت من مطالب وقف إطلاق النار،  لترسو على مراودة سياسية مخجلة لـ"إسرائيل"، لكي يحفظ نتنياهو لحكامنا العرب بعضًا من ماء الوجه أمام شعوبهم، بالسماح لتلك الأنظمة بتمرير أكياس الحليب وحافظات الأطفال، ناهيك عن حمولات من الأكفان.
السؤال المحوري فيما انتهت إليه "تبعيتهم" عن فقدان أي أهلية أو مفهوم للسيادة حتى في توزيع وجبات "جوية" لصالح ضحايا المذبحة الإنسانية، ترى، كيف استطاعت "إسرائيل" ومن ورائها أمريكا، السيطرة التامة على أي موقف عربي، يمكن أن يشتم منه رائحة النخوة والشهامة المفقودة؟
 نتنياهو، يوم أمر حكام  العرب أن يصمتوا كان يهدّد عروشهم بشعوبها، ويقينه بأنه لولا حمايته لهم، لانتهت تلك الأنظمة بأسنان شعوبها، هو ما شجّعه لأن يذكّر من يظنون أنهم "سادة"، بأنهم بلا "سيادة"، أو قادة بلا "ثقة"  إلا ما وهبته "إسرائيل" لهم من مساحة لإظهار زعامتهم المصطنعة..!
مجمل القول وخاتمته، السيادة كقرار وكموقف وكحدود في العالم العربي، انتهت مع فقدان ثقة الشعوب بحكامها.
لم نكن حينها نستوعب ما يرمي إليه القذافي عندما كان يخاطب العرب، عودوا إلى أصلكم وجذوركم التاريخية، لم تكن تلك هذرفة وردة تاريخية حتى من ديكتاتور، كان يرى الخطر محدقًا، إنما كان الرجل يستوعب ما يخطط له الغرب لتدمير وفكفكة البلدان. افتقدنا في التاريخ من يقف في وجه هنري كسينجر، ليقول لثعلب أمريكا وعقل الصهيونية، فاصلاً في مفهوم السيادة: "عشنا، وعاش أجدادنا على التمر واللبن، وليست لدينا مشكلة في العودة إليهما". وهي المقولة التي اختصرت كل معنى لسيادة الأوطان التي تجسّدها المواقف وتكون دعامتها ورأس مالها ووجودها، هي الشعوب التي تختزل فيها علاقة الدول بإنسانها كاستثمار وكمركز قرار.
 
طوفان الأقصى، كان هو الفاصل التاريخي بين من هو "مرتهن"، ومن هو "غزة". فالسيادة حين تصبح التضحية قرار شعب، لا زال واقفًا في وجه كل مسوخ العالم. شعب حرموه من لقمة العيش، ومن كل حق في الدفاع عن نفسه، ومع ذلك ثقته في مقاومته، وصموده الاستثنائي هو طريق النصر مهما بلغت التضحيات.