مارس 19, 2024 - 21:52
غزة تنتصر رغم التوحش الصهيوني الذي تقوده أمريكا ضد الإنسانية

توفيق سلاّم 

 جريمة إبادة مواطني غزة يقودنا حتماً إلى الحديث عن طبيعة هذا النظام الدولي الذي تقوده واشنطن، وهيمنتها  على العالم منذ ما يناهز ثلاثة عقود، ليس فقط بقوة السلاح، وإنما بفعل ثورات فكرية، وعلمية وصناعية وأيديولوجيات متجددة، إلا أن الحديث خلال العقد الحالي كثر عن بداية انهيار النظام الغربي الليبرالي أو جزء منه، حتى أصبح بعضهم يشير إلى "موت الغرب" وعالم "ما بعد الغرب"، فيما يرى آخرون أن النظام الدولي سيشهد تغيرات وتحولات من عالم أحادي القطبية إلى عالم متعدد القطبية، فيما يرى  علماء السياسة بأن النظام الدولي الحالي سيصمُد في وجه الهزات، لأنه قادر على احتواء الأزمات وتجاوزها، رغم انكشاف زيف القيم الليبرالية التي يبرر بها وجوده.

علاقة واشنطن بتل أبيب

العلاقة التي تجمع الولايات المتحدة بإسرائيل هي علاقة استثنائية، لم تشهد مثلها دولتان عبر التاريخ، ويصعب تفسيرها من عدسة نظريات العلاقات الدولية. وعادة ما يتم نقاش السياسة الخارجية للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط وخاصة تجاه الصراع الصهيوني-الفلسطيني من منظور اللوبي الصهيوني القوي والمؤثر في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وقدرته على ثنيها نحو المصالح الصهيونية. 
ويرى مراقبون فخر إسرائيل بمكانتها في الولايات المتحدة وقدرتها على التأثير في النشاط السياسي، وصناعة القرار في هذا التحالف الفضفاض ومساهماتها من بين أمور أخرى، في الحملات الانتخابية والجهود الفعالة بشكل غير عادي لجماعات الضغط في واشنطن، وعلى وجه التحديد لجنة ما تسمى "الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية" (إيباك).
ولعقود من الزمن احتكرت "ايباك" سوق الضغط السياسي في واشنطن وتلعب دورًا حيويًا في التأثير على توجهات صانع القرار. 
وفي المجمل أظهرت حرب الإبادة في غزة بجلاء أن العالم يفتقر إلى نظام دولي قائم على القانون، وأنه يمر بظرفية تاريخية مشلولة ومضطربة، تعمها الفوضى، وتكثر فيها التحالفات والصراعات، وبلغت فيها الحروب مستوى غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية، والأسوأ أنه يشهد عودة النازية في أوكرانيا، بالإضافة إلى النازية الصهيونية، وهناك تيارات نازية تنمو في أوروبا في هذا الاتجاه، بالتزامن مع نمو شعبوية التيارات المتطرفة. في الوقت الذي تتسارع فيه وتيرة، ولادة النظام العالمي الجديد متعدد القطبية، رغم حداثه ولادته، ورغبة العديد من الدول في الاندماج مع هذه التحولات التي تقودها روسيا والصين.
لكن هل حقًا النظام الغربي في طور الانهيار؟ وهل ثمّة نظام جديد في طور الولادة؟ وكيف يؤثر هذا الانهيار على الواقع في غزة؟ تعيش أمريكا والحكومات الغربية الداعمة لها حالة أزمة قيم، لكن النظام الدولي لا يمكن اختزاله في القيم والمبادئ، لأن بنيته تقوم على عدة ركائز، أهمها القوة، والمؤسسات والمعايير، وإذا اتفقنا مع تعريف الباحثين حول شروط انهيار أي نظام دولي، لا بد من انهيار ركيزتين وهما: استبدال الدولار بعملات وطنية، أو عملات موحدة لمجموعة بريكس، ومنافسة الصناعات الغربية من حيث الجودة ورخص الثمن، وهذا سيتطلب بعض الوقت، لكن لابد أن تجد الدول حدًا لهيمنة الدولار والتخلص من احتياطياتها للدولار .
وإذا نظرنا إلى حالة النظام الدولي بعد أكثر من سبعة عقود على إرسائه في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فإن الركيزة المعيارية منهارة، ولقد ساهم في انهيارها بشكل كبير انتهاك أمريكا ذاتها وباقي القوى الغربية المبادئ والقواعد التي وضعتها بنفسها لتأسيس النظام الدولي، بما في ذلك مبدأ سيادة الدول، ومبدأ التسوية السلمية للنزاعات بدلاً من استعمال القوة، ومبدأ سيادة القانون ومسؤولية الحماية، ومبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها.

انهيار منظومة القيم الليبرالية الغربية

لم تعد واشنطن بذلك الثقل الذي كانت عليه قبل سنوات، وانخفضت مكانتها، بفعل ظهور أقطاب دولية قوية ومنافسة لها،  وتقود تحولات عميقة في تغيير التوازنات الدولية، وإقامة علاقات مع الدول قائمة على الشراكات الاقتصادية والتنمية المستدامة، والتكامل والتعاون على قاعدة الاحترام دون التدخل في الشؤون الداخلية، وهو ما يجعل النظام أحادي القطبية في حالة من التآكل. ومن هنا تزداد شراسة أمريكا التي تحاول التشبث بمخالبها كقوة جبارة، ترى في استمرار هيمنتها كسر الخصوم وإزعاجهم طريقة مثلى لتأخير إنهيارها. وتستمد إسرائيل منها قوتها، ودعمها السياسي والعسكري في جرائمها ضد الشعب الفلسطيني. هذا هو السياق الذي ترتكب فيه إسرائيل الإبادة الجماعية في غزة، في ظل نظام دولي غربي يشهد انهيار منظومة القيم والقواعد الليبرالية وسيادة القانون، وتصدع مؤسسات الحوكمة، وضعف المؤسسات الجديدة، وقوى عالم جديد غير جاهزة للقيادة، إضافة إلى خذلان العالمين العربي والإسلامي.
وفي ظل هذه الوضعية غير القانونية تستغل إسرائيل هذه اللحظة الرمادية، لتضاعف همجيتها، في استفحال حالة الفوضى والصراعات وعدم اليقين وبطء التغيير، وتلاعب الدول الغربية بالقانون الدولي في ظل قتامة صورة المشهد العالمي. لكن هناك مؤشرات على أنه ما زال هناك أمل تجسده الدعوى القضائية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية، وتجسده مطالبات أكثر من 40 دولة أمام محكمة العدل الدولية بوقف العدوان الإسرائيلي، وتأكيد حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، أمل يبعثه زخم التضامن العالمي مع صمود المقاومة الفلسطينية في وجه الإبادة الإسرائيلية، وهي من يُراهن عليها في الانتصار على الأرض. ونأمل أن يزيد زخم التضامن العالمي ويزيد انخراط الشعوب العربية فيه لإضفاء طابع عالمي على النضال الفلسطيني، مثلما وقف العالم ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا باعتبار هذا التضامن ضرورة أخلاقية، لتحيا غزة في زمن التوحش الذي تقوده أمريكا ضد الانسانية.

الهدنة المؤقتة

لقد كان بمقدور الوسطاء الساعين إلى وقف القتال الوصول خلال فترة وجيزة، لم تكن تتجاوز في العادة عدة أسابيع، إلى صيغة لتهدئة مقبولة من الطرفين، وهذا ما يفسر تحول هذه الصيغ إلى هدن مؤقتة تفصل ما بين جولات قتال متباينة الفترات. غير أن جولة القتال الحالية، والتي اندلعت عقب شن حركة حماس عملية "طوفان الأقصى"، وردت إسرائيل عليها بحرب شاملة على قطاع غزة، تختلف عن كل ما عداها من جولات القتال السابقة، سواء من حيث حجم الخسائر الناجمة عنها، والتي تبدو أكبر بكثير من قدرة الطرفين على احتمالها، أو من حيث الأهداف التي يسعى كل طرف إلى تحقيقها، وهو ما يفسر صعوبة التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار، رغم مرور أكثر من خمسة أشهر على اندلاع القتال.
ولأن لدى هذه الحكومة أهدافًا توسعية واضحة، فقد سعت بعد طوفان الأقصى إلى شن هجوم شامل على القطاع لتحقيق مجموعة من الأهداف أهمها: أولا، تحطيم البنية العسكرية لحركة حماس وإنهاء حكمها للقطاع. ثانيًا، تحرير جميع الرهائن وإعادتهم سالمين إلى ذويهم. ثالثًا، السيطرة الأمنية على القطاع بعد إفراغه من سكانه وانتهاء العمليات العسكرية. ولأن الولايات المتحدة ومعظم دول أوروبا الغربية سارت في تبني الرواية الإسرائيلية من دون تحفظات، وقررت تقديم دعم عسكري وسياسي مفتوح وغير مشروط لإسرائيل، فقد بدأت الأزمة تأخذ أبعاداً إقليمية وعالمية، جعلتها تبدو مختلفة كليًا عن جولات الصراع السابقة بين "حماس" وإسرائيل، خصوصاً بعدما قررت أطراف إقليمية من غير الدول، كحزب الله اللبناني وحكومة صنعاء، الدخول على خط المواجهة والعمل على تخفيف الضغط العسكري على "حماس".

والواقع أننا إذا أجرينا مقارنة سريعة بين الأهداف التي سعت "حماس" إلى تحقيقها من "طوفان الأقصى"، وتلك التي تسعى إسرائيل إلى تحقيقها من حربها الشاملة على قطاع غزة، فسوف يسهل علينا أن نكتشف حجم الصعوبات التي تكتنف إمكانية التوصل إلى صيغة تسمح بوقف دائم لإطلاق النار، فقد شعرت إسرائيل بأنها تعرضت لإهانة كبرى وصلت حد الإذلال، وتم تدمير سمعة جيشها وأجهزتها الأمنية، وخصوصاً أن "حماس" ما زالت تحتفظ بعدد كبير من الأسرى الإسرائيليين. ومن ثم، لن تستطيع محو هذه الإهانة إلا بإلحاق هزيمة عسكرية كاملة ونهائية بـ"حماس" تؤدي إلى محوها من الوجود، وهو ما يفسر رفض إسرائيل التام وقفاً دائماً لإطلاق النار، وتمسكها بهدن مؤقتة تسمح لها باستئناف القتال عقب تحرير كل مجموعة من الرهائن، وهي صيغة يستحيل على "حماس" القبول بها.
صحيح أنه سبق لـ"حماس" أن قبلت بهدنة مؤقتة في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، أمكن خلالها الإفراج عن مئات من الأسرى الفلسطينيين مقابل عشرات من المحتجزين لديها، لكن قبولها هذه الصيغة جرى لأهداف تكتيكية صبت في مجملها لصالحها. أما الآن فقد أصبحت صيغة غير قابلة للتكرار، وأن لا تخاطر "حماس" بفقدان ورقة الضغط الأساسية في حوزتها للأسرى والمحتجزين، وهذا ما يفسر الصعوبات الجمة التي تواجه المفاوضات غير المباشرة التي تجري حاليًا عبر وسطاء مصريين وقطريين، بالتنسيق مع الإدارة الأمريكية، وهي مفاوضات تسابق الزمن للتوصل إلى هدنة طويلة نسبيًا مدتها ستة أسابيع تبدأ مع حلول شهر رمضان المبارك، لكن مثل هذه الهدن المؤقتة لا تحل الصراع، وغاية إسرائيل هو التوصل لتحرير الأسرى من قبضة حماس لتواصل حربها في غزة، وتكون قد اسكتت الانتفاضة الداخلية لذوي الأسرى التي تطالب نتنياهو بالتنحي عن السلطة.
وتملك إسرائيل من أوراق الضغط لفرض رؤيتها ومحاولة إجبار "حماس" على القبول بهدن مؤقتة، تهدف إلى استعادة المحتجزين على مراحل، وتجريدها، في النهاية من أهم أوراق الضغط التي تملكها. فلدى إسرائيل آلة حرب جهنمية تتيح لها إلحاق الأذى بسكان القطاع البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، وخصوصًا أنها لم تكتف بإلقاء المتفجرات فوق رؤوسهم وقتل وتشريد ومطاردة من تبقوا منهم، وإنما تتعمد في الوقت نفسه، تجويعهم وممارسة كل ألوان الإبادة الجماعية في مواجهتهم. ولأنها على يقين من أن خزائن السلاح والمال لدى الولايات المتحدة والدول الغربية مفتوحة، وتستطيع أن تغرف منها ما تشاء،  و"الفيتو" الأمريكي جاهز دائما للحيلولة دون تمكين مجلس الأمن من فرض عقوباتٍ عليها، مهما أمعنت في انتهاك القوانين والأعراف الدولية والإنسانية. لذلك تبدو إسرائيل مطمئنة تمامًا إلى أن بمقدورها مواصلة حربها الإجرامية ضد الشعب الفلسطيني إلى أن تستسلم "حماس" كما تعتقد.

جرائم الابادة الجماعية

جرائم الإبادة الجماعية التي تمعن إسرائيل في ارتكابها أسقطت كل الأقنعة عن وجهها القبيح، ودفعت الرأي العام العالمي إلى التنديد بها، وأجبرتها على المثول أمام محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب أعمال إبادة جماعية ضد الفلسطينيين. فإذا أضفنا إلى ما تقدم أن المجتمع الإسرائيلي يعاني من تمزقات وشروخ عميقة، بعضها سابق لـ"طوفان الأقصى" وبعضها الآخر لاحق، لتبين لنا أن المعركة لم تُحسم بعد، وأن مرور الوقت لا يعمل بالضرورة لصالح إسرائيل. وحده بنيامين نتنياهو، ومعه الجناح الأكثر تطرفاً وعنصرية في حكومته، هم أصحاب المصلحة في استمرار الحرب، ويبدو أنهم يعارضون حتى فكرة التوصل إلى هدنة مؤقته طويلة الأمد، خشية أن تفتح الباب أمام انفراط عقد الحكومة وانهيارها، وهو ما قد يؤدي إلى دخول المجتمع الإسرائيلي برمته في مرحلة طويلة من التخبط وعدم الاستقرار.
المشاهد المتعلقة بأوضاع المدنيين في قطاع غزة ، والمتداولة على مدار الساعة عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، تدمي القلوب، لكنها في الوقت نفسه، تعري إسرائيل التي لا تتورع عن استخدام المعاناة الإنسانية وسيلة للابتزاز السياسي، كما تعري المؤسسات الدولية التي انكشف ضعفها وعجزها عن التحرك لحماية البشر، ومنع أعمال الإبادة الجماعية. 
وليس أمام "المقاومة" من سبيل آخر لحماية مصالح الشعب الفلسطيني وتمكينه من ممارسة حقه في تقرير مصيره سوى التمسك بوقف دائم لإطلاق النار، وليس هدنة مؤقتة، وربط الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين الذين تحتجزهم بانسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع، وعودة النازحين إلى شمال القطاع، وبدء عملية الإعمار على الفور، وذلك بالتوازي مع فتح آفاق جديدة لإطلاق عملية سياسية جادة وحقيقية يمكن أن تفضي فعلاً إلى تسوية القضية الفلسطينية، ورفع المعاناة والظلم عن الشعب الفلسطيني الذي تحمل ما لم يتحمله شعب آخر في تاريخنا المعاصر.