فبراير 10, 2024 - 15:40
الانشقاق بين حاكم ولاية تكساس وبايدن.. هل ذلك بداية لتفكك أمريكا ؟

توفيق سلاّم

  يشهد العالم أحداثا مضطربة بمفاجآت مدوية بالصراع بين رئيس أمريكا وحاكم ولاية تكساس حول السيطرة على حدود الولاية، ذلك الصراع  يتوقف عليه بقاء القوة الأولى في العالم الولايات المتحدة الأمريكية أو انهيارها، في قضية الأسلاك الشائكة التي أقامها جريج أبوت حاكم ولاية تكساس الجمهوري وتمتد الأسلاك الشائكة على طول نهر ريو غراندي الذي يشكل جزءًا من الحدود بين المكسيك والولايات المتحدة بالقرب من مدينة إيجل بأس الحدودية التي تقع في تكساس.. صراع أمريكي داخلي بشأن إنفاذ قوانين الهجرة، ورفض أبوت إزاء ما يسميه "سياسات بايدن المتهورة بشأن الحدود المفتوحة مع المكسيك الذي يسمح بتدفق المهاجرين غير الشرعيين من المكسيك ودول أمريكا اللاتينية، أدى ذلك إلى
تصعيد التوتر بين حاكم ولاية تكساس وبايدن، حول هذه القضية التي اجتمع بشأنها حاكم ولاية تكساس مع 13 حاكما آخرين لدعم حق تكساس في الدفاع عن نفسها.
 وأعلن حاكم ولاية تكساس أن الرئيس بايدن تخلى عن واجبه الدستوري في حماية الأمريكيين برفضه تأمين الحدود الجنوبية للولاية، بل أنه حطم الأرقام القياسية للهجرة غير الشرعية وسمح بإطلاق العنان للفوضى الكاملة على طول الحدود الجنوبية، وأنه فشل في حماية حدود بلاده إذا أصر على موقفه هذا...!
وكان بايدن قد لجأ إلى المحكمة العليا ليستصدر حكمًا لصالحه لدعم قوانين الهجرة السارية بالفعل..!
فهل ما يهدد به حاكم ولاية تكساس حول مسألة الانفصال يمكن أن تكون مؤشرًا نحو تفكك الولايات الأمريكية عن المركز الرئيس؟ 
يعود الاندهاش أمام خبر انفصال تكساس، إلى عدم اهتمام الرأي العام الدولي بالسياسة الداخلية الأمريكية، لأن التركيز عادة يكون منصبًا على السياسة الخارجية لواشنطن، نظرًا لثقلها وتأثيرها في القضايا الكبرى عالميًا. والواقع أن  دينامية الوضع الداخلي الأمريكي، والمشاكل التي تمر بها البلاد سياسيًا  واقتصاديا واجتماعيًا وثقافيًا، سيقود إلى واقع آخر مختلف عن الصورة التي لدى غالبية الرأي العام الدولي عن الولايات المتحدة.

النزعة الانفصالية

في الوقت الراهن يعتقد الكثير من المحللين السياسيين في العالم العربي، بأن حركية التاريخ قد توقفت في الغرب، فهو وحدة متجانسة لا تعرف تفرقة ولا انفصالاً. وهو أمر غير صحيح، لأن استقرار الغرب يعود لعقود قليلة فقط نتيجة الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي، بينما مجمل التاريخ هو مواجهات، سواء داخل الوطن الواحد مثل الحرب الأهلية الأمريكية، أو بين دوله مثل الحرب العالمية الأولى والثانية. وأمام تراجع الغرب في الوقت الراهن، يحاول الغرب، خاصة التحالف الأنجلوسكسوني تقديم الصين وروسيا خطرين على الحضارة الغربية، لإعادة بناء الوحدة الغربية على أسس جديدة. والواقع أن النزعة الانفصالية في عدد من الولايات المكونة للولايات المتحدة أمر يقلق صناع القرار السياسي أو "الدولة العميقة".
فالتصورات المتداولة في الأدبيات السياسية الأمريكية، خاصة في وسائل الإعلام لكل ولاية، لا تجد صدى في الجرائد الكبرى مثل نيويورك تايمز.
فيما يجري الحديث عادة عن الفقدان المرتقب للولايات المتحدة لزعامة وريادة العالم، ويتم التركيز على قوة الصين، بينما العامل الحاسم هو تفكك المجتمع الأمريكي من الداخل. فمنذ الحرب الأهلية في ستينيات القرن التاسع عشر، لم تغب نزعات الانفصال لدى الولايات الجنوبية، غير أن ازدهار البلاد اقتصاديًا، ثم الحربين العالميتين والحرب الباردة جعل هذه النزعات تتراجع وتعود خلال السنوات الأخيرة إلى واجهة الأحداث بقوة، نتيجة عوامل متعددة على رأسها الاختلاف في التعاطي مع الهجرة، خاصة اللاتينية، ثم الاستقطاب والانقسام السياسي الذي تعيشه البلاد منذ 2016، بفوز الجمهوري دونالد ترامب برئاسة البيت الأبيض. 
يقول الكاتب السياسي الأمريكي ريتشارد كريتنر صاحب كتاب "الانفصال والتقسيم والتاريخ السري لاتحاد أمريكا الناقص" الصادر سنة 2020، "إن مسألة الانفصال في الولايات المتحدة أصبحت تفرض نفسها بشكل لافت خلال السنوات الأخيرة، بعدما كانت هامشية. ويحذر من أن النزعة الانفصالية هي متجذرة في فكر المواطن الأمريكي في بعض الولايات، وليس فقط في تكساس وكاليفورنيا، وهي تعود إلى تأسيس الاتحاد الذي لم يكن مثاليًا. ومن جانبه، يرى أستاذ الإعلام مايكل لي من جامعة شارلستون ولاية كارولينا الجنوبية، أن الانفصال يتعزز في البلاد في صمت منذ مدة، بسبب تعزيز نزعات خطيرة تجعل البلاد مرشحة لفوضى الانفصال. ويلخص أبرز هذه العوامل التي لا تلفت الأنظار بقوة الآن في تأسيس مدارس خاصة بالبيض والأغنياء منفصلة عن باقي الإثنيات، ثم أحياء وبلدات، بل ومدن صغيرة لأصحاب الأفكار المتوافقة، علاوة على النمط الجديد للضرائب الذي يفرض على منطقة دون الأخرى. ويبرز عامل آخر وهو الذي يلقي الضوء على الانفصال بقوة في الوقت الراهن هو قرار بعض الولايات تبني قوانين خاصة لمواجهة الهجرة مغايرة للقوانين الفيدرالية.

ولا يقتصر أنصار الانفصال على حزب معين، نعم هي نسبة مرتفعة في صفوف الحزب الجمهوري، ولكنها موجودة كذلك في صفوف الحزب الديمقراطي وفي الوسط الشعبي مثل حالة كاليفورنيا. وإذا اقتصرنا على خطاب كاليفورنيا وتكساس، يرى أنصار الاستقلال في كاليفورنيا، أن الولاية في حال انفصالها عن المركز، ستكون من أرقى الدول في التاريخ، بسبب مستوى نهضتها العلمية والفكرية، ويلحون على أن تأثير كاليفورنيا في العالم سيكون أقوى لو انفصلت عن الحكومة الفيدرالية. ومن جهتهم، يعتقد أنصار تكساس أن الولاية غنية بالنفط، وسيترتب على استقلالها عن الحكومة المركزية الفيدرالية، التمتع بثروات الولاية ثم التحكم في الهجرة حتى لا تصبح تكساس لاتينية، وتفقد طابعها الأنجلوسكسوني، بسبب الهجرة القادمة من أمريكا اللاتينية. وهكذا يجري الحديث عادة عن الفقدان المرتقب للولايات المتحدة لزعامة وريادة العالم، ويتم التركيز على قوة الصين الجبارة، التي أصبحت القوة المنافسة الصاعدة للاقتصادات الغربية، ونفوذها في تشبيك العلاقات الاقتصادية والتجارية مع دول العالم، هذا بالإضافة إلى إنشاء التكتلات الاقتصادية مثل منظمة شينغهاي، وبريكس وأوراسيا، تفقد أمريكا هيمنتها المالية، وضعف نفوذها. 

الانفصال عن المركز 

 التفكيك هنا، أوالانفصال والانقسام للاتحاد الأمريكي، رغم أن فكرة الانفصال تبدو احتمالاً بعيدًا في الوقت الراهن، فإن ذلك لا يعني أنها لن تحدث على الإطلاق.. ذلك  أن كثرة تكرار دعوات الانفصال من قبل كل من الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء، هو ما يدفع الأمريكيين إلى التوقف والتفكير في الأسباب التي تؤدي إلى تلك الدعوات، والتأمل في عيوب النظام الفيدرالي الذي يؤدي إلى تململ البعض واعتقادهم أنهم ربما سيصبحون أفضل حالاً إذا انفصلوا عن اتحاد الولايات الأمريكية وكونوا دولاً مستقلة.
وتتزايد الدعوات إلى إعلان استقلال ولاية تكساس عن الولايات المتحدة الأمريكية، بعد قرار المحكمة العليا الأمريكية بالانحياز إلى إدارة جو بايدن بشأن النزاع بين الولاية والسلطات الفيدرالية بشأن أحقية الإشراف على الحدود مع المكسيك، ومكافحة الهجرة الشرعية.
وذكرت وسائل إعلام أمريكية أنه في التصويت بأغلبية 5 مقابل 4، سمحت أغلبية قضاة المحكمة العليا للمسؤولين الفيدراليين بقطع أو إزالة أجزاء من حاجز الأسلاك الشائكة الذي أقامته ولاية تكساس على طول الحدود مع المكسيك لمنع المهاجرين من العبور إلى أراضيها.

غضب تكساس

أثار قرار المحكمة العليا غضب سكان ولاية تكساس الذين يؤيدون الإجراءات التي اتخذها حاكم الولاية الجمهوري جريج أبوت، بشأن مكافحة الهجرة غير الشرعية إلى أمريكا، التي شهدت تدفقاً كبيراً للأشخاص الذين يعبرون الحدود من المكسيك باتجاه الولايات المتحدة.
وكان الحزب الجمهوري في ولاية تكساس قد أعلن في حزيران/يونيو 2022 عزمه الضغط على السلطات المحلية لإجراء استفتاء في السنوات المقبلة لتحديد مصير الولاية ضمن الولايات المتحدة الأمريكية.
وأصدر الحزب الجمهوري في ولاية تكساس قراراً تم تبنيه عقب اجتماع في هيوستن وجاء فيه: "بموجب المادة 1 من دستور تكساس انتهكت الحكومة الفيدرالية حقنا كحكومة محلية، إذ يتم تجاهل حقوق تكساس في التعديل وتحتفظ الولاية بحقها في الانفصال عن الولايات المتحدة."
وكان الجمهوريون في الولاية قد رفضوا الاعتراف بنتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية للعام 2020 التي أدت إلى سقوط الرئيس دونالد ترامب وانتخاب الديمقراطي جو بايدن. وبالتالي، فإن الجمهوريين في الولاية أعلنوا أنهم لا يعترفون بشرعية جو بايدن. 
بيد أن موضوع انفصال تكساس عن الولايات المتحدة، رغم أنه قد لا يؤدي إلى نتيجة في القريب العاجل، لكنه يحمل في طياته بذور أزمة بنيوية في الولايات المتحدة. 

أهمية تكساس 

لذا، فعندما تطالب تكساس بالاستقلال، فإنها تحدث شرخاً كبيراً في الاتحاد، خصوصاً أنها تتسبب بزعزعة الأوضاع في ولايات كانت تابعة للمكسيك من جهة، وتشهد هجرة متزايدة من أمريكا اللاتينية عبر الأراضي المكسيكية ما أدى إلى تحوّل ديموغرافي كبير فيها لغير صالح الانجلوساكسون، الذين كانوا يعيشون على تجارة الرقيق، ولصالح الأمريكيين اللاتينيين الذين تتزايد في صفوفهم نزعات إحياء الهوية الأمريكية اللاتينية التي قمعت بشدة منذ أواسط القرن التاسع عشر نتيجة صعود الهيمنة الأمريكية الشمالية المستندة إلى العصبية الانجلوسكسونية.
الجدير ذكره أن ثمة مطالبات في كاليفورنيا أيضاً بالانفصال عن الاتحاد بدعوى أن الولاية هي الأغنى في الاتحاد، وأنها تعيل ولايات فقيرة عبر الضرائب التي تفرض عليها، علماً أن اقتصادها وحدها مصنّف الخامس عالميًا. 

البعد الاقتصادي 


 عندما انضمت تكساس في منتصف القرن التاسع عشر إلى الولايات المتحدة، كانت البلاد تشهد طفرة اقتصادية نتيجة توسع الرأسمالية العالمية من جهة وبحثها عن مراكز جديدة للاستثمار بعيداً عن المركز الأوروبي الذي كان يشهد ثورات عمالية عمت القارة العجوز في العام 1848.
وبالتالي، كان من المربح بالنسبة إلى الكثيرين أن ينضموا إلى الاتحاد، وأن يتشاركوا الأرباح الناجمة عن التوسع الكبير في الاستثمارات الذي انتقل من المركز في نيويورك إلى باقي الولايات الأمريكية بدرجات متفاوته. هذا ما حول الولايات المتحدة من بلاد تحررت من التاج البريطاني وتعتاش على الزراعة إلى مركز لنمو الرأسمالية المالية الحديثة التي ستستثمر في طفرة صناعية، وتدمج الرأسمال الصناعي بالرأسمال المالي لتشكل عنواناً ومركزاً لرأسمالية القرن العشرين أي الرأسمالية الإمبريالية.
أي أنها مثلت المدى الأقصى لتطور الإمبرياليات الكولونيالية المجسدة للاحتكارات الكبرى لتتحول الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية إلى مركز احتكار الرأسمال المالي الصناعي وربط العالم بها - عدا كتلة الدول الاشتراكية- بتبعية لنفوذها عبر هيمنتها المالية التي فرضتها عبر الدولار الأمريكي والبنك وصندوق النقد الدوليين اللذين مثلا أداة لفرض الهيمنة الأمريكية في العالم. 
وشكلت الخمسينيات من القرن الماضي العصر الذهبي للرأسمالية الأمريكية الليبرالية ذات النموذج الجذاب، والتي عبرت عن نفسها بالحلم الأمريكي الذي يتيح للمشارك فيه أن يمتلك سيارة ومنزلاً مجهزاً بأدوات كهربائية وحياة مرفهة.
وخلال الستينيات والسبعينيات، انتقلت الولايات المتحدة إلى إطلاق هيمنتها الخشنة حول العالم عبر الاندفاع في مغامرات عسكرية في جنوب شرق آسيا، وفي سياسات هيمنة انقلابية في أمريكا اللاتينية وأفريقيا.
واستطاع الرأسمال الأمريكي أن يجدد نفسه عبر تحرير الدولار من الارتباط بالذهب، وربطه بمبيعات النفط العالمية، وهو ما أعطى زخماً جديداً لواشنطن تمكنت عبره من إجهاد الاتحاد السوفيتي بالتعاون والتنسيق مع اللوبي اليهودي، الذي كان قد تغلغل في مراكز العليا لقيادة الدولة، وفي مفاصلها، وبدأت لعبة هؤلاء من الداخل بنخر الدولة وصناعة الأزمة، في صراع برز على واجهته جورباتشوف، مهندس إعادة البناء، واستكمل يلتسن سلخ الاتحاد إلى جمهوريات مستقلة، وهو ما أدى إلى انهيار الكتلة الاشتراكية في العام 1989 وانهيار الاتحاد السوفيتي في العام 1991. 

زمن الأحادية القطبية 

شكلت المرحلة الممتدة من العام 1991 إلى العام 2016 الفترة التي كانت الولايات المتحدة تحاول تمكين هيمنتها على العالم، وإقامة نظام أحادي القطبية مارس الهيمنة على العالم بفجاجة ووقاحة مطلقة. وكل ذلك تزامن مع محاولة تأمين دورها كقاعدة للرأسمالية المالية تحت شعار العولمة.
وبما أنها كانت تعي أن قوى أخرى في العالم ستنشأ وتتحدى هيمنتها، وعلى رأسها روسيا والصين وأوروبا واليابان، وبما أنها كانت تعي بأنها قد فقدت أفضليتها الاقتصادية بصعود اقتصادات قوية كاقتصاد ألمانيا وروسيا واليابان والصين، فإنها أرادت أن تبقي هيمنتها العالمية عبر التحكم بتقاطع طرق التجارة الدولية المتمثلة بمنطقة الشرق الأوسط، فلجأت لمنافسة الصين باتفاق لإنشاء طريق الهند الشرق الأوسط وأوروبا.
مجمل هذه المتغيرات الكونية هو ما دفع الولايات المتحدة إلى إطلاق عملية السلام في الشرق الأوسط في العام 1991، لإقامة نظام إقليمي تحت هيمنتها وبقيادة "إسرائيل".
استشعرت واشنطن ومعها "تل أبيب" صعود التحدي لهيمنتهما في أواخر الألفية الثانية، لجأت إلى اجتياح أفغانستان والعراق بغية السيطرة على المنطقة الممتدة من المحيط الأطلسي غرباً إلى حدود الصين شرقاً، ومن البلقان شمالاً إلى القرن الأفريقي جنوباً. فضلاً عن منع أوروبا من الوصول إلى أفريقيا مباشرة بما يجعلها معتمدة في الوصول إلى القارة السمراء على واشنطن.
 أما بالنسبة إلى روسيا والصين، فإن هذا كان من شأنه أن يمنعهما من الوصول إلى شرق المتوسط ومنه إلى أفريقيا. هذا كان سر السياسة الخشنة التي اعتمدها جورج بوش الابن خلال ولايتيه بين العام 2001 و2009.
لكن هذه السياسة الخشنة كانت مكلفة جداً إذ كلفت الاقتصاد الأمريكي 6 تريليون دولار، فيما منعت المقاومة العراقية واشنطن من استغلال خيرات البلاد بما يكفي لتغطية كلفة العملية العسكرية. وقد أدت تكاليف الحروب هذه إلى أزمة اقتصادية في الولايات المتحدة في العام 2008 ما دفع الرئيس باراك أوباما الذي خلف جورج بوش الابن إلى محاولة تحقيق الأهداف الجيوسياسية نفسها، لكن عبر القوة الناعمة فكان "الربيع العربي" الذي انطلق في العام 2011 بعد عامين على تولي أوباما سدة الرئاسة الأمريكية. 
وكان الهدف من هذه الهيمنة الأمريكية إبقاء الولايات المتحدة القطب الأول في العالم، بما يمكن واشنطن من إبقاء هيمنتها المالية ليس فقط للحفاظ على دورها كمركز مالي عالمي، بل أيضاً للإبقاء على "الحلم الأمريكي" المعتمد على تأمين الرفاه المادي للغالبية العظمى من الأمربكيين على حساب اقتصادات الدول المنهوبة. 

زمن التحدي
بالتوازي مع ذلك، كانت روسيا والصين قد أطلقتا مبادرة مجموعة شنغهاي 5 في العام 1995 بالشراكة مع قرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان، وبعد انضمام كازاخستان إلى المجموعة، تم الإعلان عن تشكيل منظمة شنغهاي للتعاون في حزيران/يونيو 2001 وذلك لإغلاق وسط آسيا أمام النفوذ الأمريكي.
بعد ذلك، تم الإعلان في العام 2009 عن تشكيل منظمة "بريكس" بين الصين وروسيا والهند وجنوب أفريقيا والبرازيل بقصد الالتفاف على الطوق البحري الذي كانت الولايات المتحدة تحاول إقامته حول قلب أوراسيا المتمثل بروسيا والصين. ولعبت إيران التي أصبحت فيما بعد عضواً في منظمتي "شنغهاي" و"بريكس" دوراً كبيراً في مواجهة الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط.

عملة موحدة 

مع نهاية العام 2023 وبعد انضمام أعضاء جدد لمجموعة بريكس وعلى رأسها مصر وإثيوبيا وإيران والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، أعلنت منظومة "بريكس" أنها تنوي إطلاق عملة موحدة تكون بديلاً  للدولار الأمريكي في تعاملاتها التجارية البينية، علماً أن دول "البريكس" كانت قد بدأت الاعتماد على عملاتها المحلية في تجارتها البينية. لكن، مع الإعلان عن نية "بريكس" إطلاق عملة موحدة، شعرت واشنطن أن هيمنتها العالمية ودورها كقاعدة للرأسمال المالي العالمي قد أصبحا على المحك. فانتقال منظمة "بريكس" من التعامل بالدولار إلى الاعتماد على عملة بديلة،  يهدد بإخراج نحو أربعين في المئة من الاقتصاد العالمي من دائرة الدولار، ما سيكون له أثر كبير في الهيمنة الأمريكية خارج الولايات المتحدة، كما أن من شأنه أن يكون له ارتداد كبير على التضخم داخل الولايات الولايات المتحدة، عندما تبدأ كتلة مالية نقدية كبيرة متداولة في السوق العالمية تعمل بها كبرى الاقتصادات العالمية. ولعل ما سيزيد من الضغط على الدولار الأمريكي هو انطلاق العملات الرقمية في العالم. وقد نشرت مؤسسة "مورغان ستانلي" المتخصصة بالشؤون المالية تقريراً حذر من خطر فقدان الدولار الأمريكي لهيمنته، بسبب الاهتمام المتزايد بالأصول الرقمية، بما في ذلك عملة البيتكوين.

تراجع الاقتصاد الأمريكي 

نتيجة التحديات التي باتت تواجه الهيمنة الأمريكية في العالم، ونتيجة انتقال التحدي من النطاق الجيوسياسي إلى النطاق المالي، فإن الاقتصاد الأمريكي بات يواجه ضغوطاً كبيرة. وقد شهد تراجعاً كبيراً في إنتاجية القطاع الصناعي وتراجع حصة الولايات المتحدة من الناتج الصناعي العالمي من 70 في المئة في العام 1945 إلى أقل من 18 في المئة مؤخراً، بالتوازي مع ارتفاع
حجم المديونية الأمريكية  إلى 34 تريليون دولار مقابل ناتج محلي بحدود 24 تريليون دولار. هذا أدى إلى رفع معدلات البطالة بشكل كبير في الولايات المتحدة. 

وأخيرًا، فإن ولاية تكساس التي انسلخت من المكسيك بفعل الحرب وانضمت إلى الاتحاد في منتصف القرن التاسع عشر الذي اطمعتها الرفاه الذي كان يتحقق في الولايات المتحدة باتت اليوم تشعر أن هذا الرفاه لن يستمر طويلاً.. إذ تعرب عن رغبتها في الخروج من الاتحاد، ولو أنه حتى الآن لا يزال في إطار الرغبات. وهذه الرغبات هي أيضا لدى ولايات أخرى ترى في الانفصال جدوى في التطور والازدهار لصالح هذه الولايات. وما يعزز هذا المنحى هو أن الكثير من الولايات ومن ضمنهم تكساس كانوا يريدون أن يكونوا جزءاً من مسيرة نجاح الولايات المتحدة والذي ترافق مع صعود هيمنتها العالمية. أما وأن الهيمنة الأمريكية، تتضائل وهناك عوامل مهددة لزوال هيمنتها بالمطلق مع صعود المنافسين، وعدم رغبة الدول في بقاء هيمنتها على بلدانهم، لا سيما مع بروز أشكال جديدة في العلاقات في نظام التعدد القطبي الأكثر عدالة، وايجابية، هو ما يجعل العالم يتجه نحو روسيا والصين والارتباط بشراكات اقتصادية واستثمارية واسعة، وتنمية مستدامة ما يجعل مصالح البلدان ترتبط مع هذه المنظومة في تسريع نموها وازدهارها، بدلا من الغرب الرأسمالي الذي يجعل من هذه البلدان سوقا استهلاكية لمنتجاتها، وجعل هذه البلدان تتداول بعملتها الوطنية، وبالعملة الموحدة لبريكس، وهذا سيسرع من زمن الانحدار، إلى هاوية السقوط لمراكز الامبريالية الاستعمارية وهيمنتها على العالم. 

 وأن يتشاركوا أكلاف هذا الانحدار.
إذًا هناك متغيرات دولية كبيرة، مهما حاولت أمريكا كبح ذلك بحرب أوكرانيا وغزة، وافتعال العديد المشاكل في بؤر عديدة من العالم، هذا في الأخير يقودها إلى مزيد من الارتكاسات. ربما تكساس وغيرها لديهم رؤية مستقبلية، لتفادي الكبوات المستقبلية بالانفصال..  فهل دعوات تكساس إلى الانفصال ستسري عدواها إلى عدد من الولايات الأخرى وعلى رأسها كاليفورنيا؟ وهل يمكننا، من الآن فصاعداً، أن نطرح مسألة تفكك الولايات المتحدة، واردة كما حدث للاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا وتشكوسلوفاكيا؟ هناك تراكمات داخلية، تقود نحو هذا التوجه، بالإضافة أن النظام الرأسمالي الاستعماري الغربي أحادي القطبية، أفقد العالم استقراره، ودمر اقتصاداته، وجعله رهين الابتزاز. فالغرب تعامل مع الشعوب بمنطق القوة والهيمنة والنهب للثروات، وصناعة الأزمات والحروب  والتدخل في شؤون البلدان، هذا بالإضافة إلى عدم قدرته على مجاراة المنافسة الاقتصادية والصناعية للدول الصاعدة،  والتكتلات الاقتصادية، والحد من دولرة العالم، بإطلاق عملات بريكس التي ستحد من هيمنة الدولار، واحتياطياته، ونشؤ ساحات المقاومة التي تقف في مناهضة السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، وفي أفريقيا، وأمريكا اللاتينية  وهذا ما يجعل مصير أمريكا مهدد بالنكسات، لا سيما مع عدم رغبة البلدان بتواجده العسكري على أراضيها، وقد أسقطت حرب غزة شعبية أمريكا، وهزت أركانها مع كشف قناع ضعفها في مواجهة وحدة ساحات المقاومة.