عرب جورنال / خالد الأشموري -
في أعماق الأرخبيل الأندونيسي تشاهد من حولك تناثر أكثر من ثلاثة عشر ألفا من الجزر الزبرجدية الخضراء ، تمتد على صفحة المياه الغارقة في أحضان المحيطين الهادي والهندي، مشكلة جسرا بين المحيطين بطول ٦٠٠٠ كم من الشرق إلى الغرب ، وجسرا آخر لمسافة ۲۱۰۰ كم بين قارتي آسيا إلى الشمال واستراليا إلى الجنوب .
في مكان القلب من هذه الجزر تجد نفسك بين أجمل مشاهد الطبيعة الرائعة التي تمتد على مساحة ٥٥٠٠ كم2 فياضة بالفتنة والسحر والإبهار والسخاء والازدهار والنضارة والإثارة واللطف والرقة والجمال.. ويثور في رأسك سؤال ملح : هل حقا أن " بالي " ـ هذه الجزيرة الرائعة - هي بالفعل فردوس مفقود .. أم أنها فردوس حقيقي .. ؟ !
هذه هي " بالي .. كما تريدها أنت أن تكون " فذلك هو الشعار الذي تقرأه في كل مكان في الجزيرة .. على الجدران ، وفي الشوارع ، والفنادق ، والحدائق ، والأسواق ، والمسارح ، والمراقص .. وحتى في المعابد التي يتجاوز عددها الألفين ، شعار يترنم به الجميع صغارا وكبارًا لإرضاء الزوار والسائحين.
دنيا الأحتفالات والزهور
الأكثر إثارة في بالي هو احتفالات سكانها ومهرجاناتهم فهم يحيون عدة احتفالات وطقوس دينية تتخللها رقصات تقليدية فولكلورية ولكن الأغرب من كل ذلك تلك الطوابير الطويلة من حاملات القرابين المزدانات بالأزهار والورد وهن يسرن في صفوف متراصة تتقدمهن الموسيقى والطبول والدفوف والصاجات لإحياء ذكرى ميت أو توديعه على طول الطريق إلى مقره الأخير . . !
الجذور الحضارية لبالي
تعتبر " الحضارة البالية " نتاج العديد من العناصر المتداخلة ، وتؤكد الكتابات القديمة والتي يرجع تاريخها إلى القرن التاسع الميلادي أنه كانت لبالي حينذاك حضارة متقدمة كانت متأثرة بالحضارة الهندوسية من جنوب الهند ، والبوذية عن طريق التجار الصينيين وتجار شبه جزيرة ماليزيا ، وقد تمركزت الهندوسية في " جاوا " حينذاك . وفي القرن الرابع عشر الميلادي رحل الكثيرون من جاوا إلى بالي حاملين معهم الكثير من المؤثرات الأجنبية ، وتختلف الديانة الهندوسية في بالي عنها في الهند إذ إنها امتزاج بين هندوسية الهند وهندوسية جاوا .
في الهندوسية البالية يكمن الاعتقاد بأن لكل شيء روحا ، وهي نظرية قديمة في الهندوسية وتدخل في كل المعتقدات البالية.. لقد كانت العقلية البالية عقلية منتقية مازجة أخذت الأفكار الجديدة والغريبة ودرستها باهتمام، وما استحسن لدى الناس دمج في سلوكياتهم ومعتقداتهم وهذا ليس بالشيء الغريب، حتى أنه خلال بضع عشرات من السنين لا نستطيع أن نفرق بين المعتقدات الأجنبية أو المحلية.
وتتميز الحضارة والثقافة البالية بالديناميكية والحركة المستمرة، والتغييرات تحدث بسرعة اليوم نتيجة للاختلاط المتزايد مع الأجانب.. وأهل بالي على معرفة جيدة من أن العالم مليء بالمخاطر غير المرئية، والتي يجب أن يأخذوا حذرهم منها دائما، وكل أسرة تبذل مجهودا ووقتا ثمينين لكي تدرأ عنها هذه القوى السلبية ، ويتم ذلك في صور عديدة مثل :لبس الأحجبة ، أو تلاوة الصلاوات ، أو امتلاك قوة سحر ، أو بتقديم القرابين لله بوسائل متعددة ، مثل تقديم القرابين للجدود العظام من نفس الأسرة ، وذلك لاستجلاب العون والحماية ، بجوار الاستفادة من حماية الجماعة أو القرية التي ينتمي إليها الفرد .
معتقدات وطقوس الحماية الضعفاء
بالرغم من أن أهل بالي ليسوا عصبيين بصورة مرضية، إلا أنهم يهتمون دائما بالضعاف لكونهم عرضة للقوى السلبية أكثر من غيرهم خاصة المرضى والأطفال. وتتم حماية هؤلاء الضعاف عن طريق الأحجبة والطقوس والاحتفالات الدينية والقرابين حتى تكتمل قواهم ويستطيعوا حماية أنفسهم ، ومن الواضح أن العالم البالي ليس محظوظا أو سعيدا كما يتصور الإنسان لأول وهلة .
ومن المعتقدات المهمة في بالي أن كل شيء في الكون يتكون من أجزاء مختلفة : الجزء الأعلى أو المقدس، والجزء الأوسط الذي يشترك في شئون الحياة اليومية ، والجزء الأدنى . وهذا التقسيم الثلاثي للأشياء يسيطر على معتقداتهم لدرجة أن بالي نفسها لديها الجبال المقدسة، والأرض الوسطى حيث تتمركز شئون الإنسان اليومية ،والبحر غير النقي . وكل قرية لديها ثلاثة أجزاء مقسمة تبعا لذلك ولكل جزء معبده الخاص به ، أكثر الأجزاء قدسية هو الذي في اتجاه الجبال وأقلها وأدناها " والذي توجد به المقابر " في اتجاه البحر ، حتى المنازل ففى كل منزل ثلاثة أجزاء : معبد الأسرة فى اتجاه الجبل وسط المنزل للحياة العادية ، وحظائر الحيوانات وأماكن إلقاء القمامة في اتجاه البحر، كل بناية في المنزل لها ثلاثة أجزاء : الرأس " السقف" الحميد " الأعمدة والحوائط " ، والأقدام " القواعد والأساسات " ، ويمتد هذا الاعتقاد المقدس للإنسان نفسه ، فكل إنسان لديه أجزاء مقدسة ، وعادية ، ودنيئة وكل ذلك يمكن أن يتضح بجلاء في الحياة اليومية لشعب بالي.
الطبيعة الفضولية لأهل بالي
عندما تعيش في إحدى قرى بالي ، فإنك ستقابل باستمرار بأسئلة من نوع أين تذهب ؟ ، وهل أنت متزوج ؟ ، وكم لديك من الأطفال ؟ ، وبكم اشتريت ما ترتديه ؟ وهكذا . ويكون رد فعلك التلقائي الذي يعتريك هو وما شأنك بذلك ؟ ! لكنك لا تدري أن هذه الأسئلة هي جزء من الطبيعة الفضولية لدى أهل بالي ويجب ألا تزعجك تلك الأمور أو تترجمها على أنها نوع من الوقاحة .
الشيء الآخر الذي يجب أن تتعلمه في بالي هو ألا تتعجل الأمور ، فإن الأشياء تحدث عندما يحين وقتها ونأتي لما يجب عليك أن تتناساه مما تعلمته من قوانين اللباقة والاتيكيت ، إذ عليك أن تتعلم أن تأكل بيدك مباشرة وبالتحديد بيدك اليمنى " وقد يسبب ذلك أزمة لمن يستخدمون اليد اليسرى " ، إذ إن طعام أهل بالي بسيط جدا يطهى الأرز في الصباح الباكر . وهناك أربعة أو خمسة أنواع من الخضراوات ، قليل من اللحوم أو الأسماك ، البهارات والتوابل ، الماء الساخن على الموقد للشاي أو القهوة وهذا هو كل ما هنالك.
عادات غريبة
وأهل بالي يحبون، أن يأكلوا منفردين ، فالوجبة ليست وقتاً للحديث ولذلك فالعائلات لا تتجمع حول مائدة واحدة ، وكل ما يفعلونه هو أن يذهبوا إلى المطبخ ويأخذوا ماتم تحضيره ويخلطوه بأصابعهم في طبق او ورقة موز ليجلس كل فرد منفردا بنفسه لتناول ما معه ، والأجنبي عادة لا يستطيع أن يتحمل نسبة البهارات الحامية وسيحتاج حتما للبروتين والخضراوات " وهي ليست جزءا من نظامهم الغذائي .
" . وعادة الأكل بين الوجبات منتشرة في بالي ، هناك العديد من عربات اليد التي توجد في كل مكان ، ويقدم حساء المكرونة باللحم أو الفول السوداني أو الفاكهة أو المشروبات ذات النكهات المختلفة وتتطلب الاحتفالات أو الطقوس العائلية تحضيرا كبيرا لأطعمة شهية بكميات هائلة تكفي لإطعام مائة فرد أو يزيد، و نادرا ما تقوم الفنادق بتحضير مثل هذه الأطعمة حيث إنها صعبة التحضير وقليلا ما يستمتع بها السياح وقد يجد السائح نوعا أو نوعين من أبسط هذه الأطعمة وهي معدلة لتناسب الذوق الأجنبي ، ولا تشبه بأي صورة الطعام الأصلي .
وزائر بالي لابد أن يكون مستعدا لتناول الشاي أو القهوة بنسبة سكر مرتفعة ، فأهل بالي ببساطة لا يتحملون أن يتناولوا أي شيء إلا إذا كان محلى بنسبة عالية جدا ، وهم لا يتعاطون أي نوع من الكحول سوی نبيذ الأرز المحلى ، أو بيرة النخيل ، وفي حفلات سمرهم لا يتناولون إلا البيرة المحلية ، وتلك المشروبات المبهرجة التي تقدم في الفنادق غير معروفة بالمرة لأهل القرى .
ومن العادات المنتشرة بين أغنياء بالي شراء اللوحات أو المنحوتات الخشبية أو الجواهر التي تصنع خصيصا لأغراض السياحة والمنازل العادية بسيطة ولا يزين جدرانها سوى بعض الصور ، والأشياء المنحوتة على الصخور تحفظ للمعابد ، وتفضل السيدات الذهب على الفضة.
الآداب العامة والحفاظ عليها
من الصعوبة بمكان أن تشاهد فتى وفتاة معا في مكان عام ، فإظهار العواطف علنا يعتبر خرقا شديدا لأصول الآداب العامة ويسبب ذلك إحراجا كبيرا للعائلات، ويصاب أهل بالي بصدمة شديدة عندما يشاهدون الأجانب يمارسون العواطف علنا.. والشيء المقبول لديهم هو العناق في لقاء بعد طول فراق بين شخصين من جنس واحد ، إذ ان ذلك يعتبر نوعا من الصداقة المقبولة لديهم ، ويفصلون دائما في اجتماعاتهم الشعبية بين الرجال والنساء ،
فلكل مكان مستقل . ومع هذا فإن المرأة هناك تقوم بأعمال تعتبر أعمالا تقليدية للرجل.
ارتباط الفنون بالطقوس الدينية
عادة ما لا يحضر أهل بالي العروض الراقصة التي تقدم للسائحين ، وأغلب الموسيقى والرقصات لديهم لها علاقة بالطقوس الدينية ، وهي لا تبدأ إلا بعد غروب الشمس وعادة ما تستمر إلى صباح اليوم التالي .. وأهل بالي لا يهتمون بما يرتدونه من ملابس في الأيام العادية ، ولكنهم في احتفالاتهم الدينية يرتدون أفخم الملابس وأبهاها ، وهناك نوع من الملابس "يدعى کامبن" وهو عبارة عن قطعة من القماش طولها متران ونصف ، تلف حول الوسط وتربط بحزام يرتدى عند تقديم القرابين اليومية الصغيرة ، وعند عقد اجتماع عائلي رسمي أو عند التحضير للاحتفالات والطقوس .. وفي الاحتفالات الكبيرة في القرية يلبس القماش المطرز والمقصب والمزين بالأزهار والأوراق الذهبية.. ولاهتمامهم بمظهرهم في احتفالاتهم ، فإنهم دائما ما يتحفظون ضد الأجانب الذين يحضرون تلك الاحتفالات بملابسهم العادية .
جولة في " أو بود "
الجولة في جزيرة بالي قد لا تكتمل إلا بزيارة مدينة "أوبود " تقع مدينة أو بود على الهضاب بعيدا عن العاصمة دنباسار في شمال الجزيرة ، وهي مقر الحضارة والثقافة والهدوء ، ويحيط بها العديد من القرى الصغيرة التي تشتهر بالحرف اليدوية والرقصات الشعبية في أو بود لن تجد فنادق فخمة من ذوات النجوم الخمسة ولكنك ستجد الفرصة للإقامة في إحدى العشش الصغيرة المصممة على الطراز البالي القديم حيث يمكن أن تكتشف أن المالك قد يكون أميرا .
سر الجبال والبراكين
تقع جبال بالي الشهيرة وبراكينها متضمنة الجبل الرئيسي للجزيرة " جوننج أمنج " شمال أوبود في المنطقة الوسطى، يؤمن أهل بالي بقوة وغموض هذه الجبال، أما بالنسبة للسائحين فهي مجرد عرض لجمال المناظر الطبيعية ،وفي باتور يمكنك أن تنزل من خلال فتحة البركان الهائلة ،وأن تأخذ قاربا في بحيرة باتور ثم تتسلق المنحدرات في جبل باتور نفسه.. يمكنك بعد ذلك أن تصعد إلى حافة فوهة البركان ، وأن تستمع إلى صوت غليان البركان ، وأن تشاهد الأبخرة المتصاعدة من الشقوق في الصخر.. إذا كنت تريد أن تبتعد عن كل شيء ، وأن تستلقي على شاطئ خال هادئ تحت ظل إحدى أشجار نخيل جوز الهند ، فما عليك إلا أن تتجه إلى شرق بالي .. هذا الطريق يحتضن خط الشاطئ .. ويقطع الشواطئ الخلابة والرمال الممتدة بعض القرى الحالمة ذات الأسماء الرومانسية مثل " كوسومبا " و" بانتاي بج بج" وهي قرى صغيرة تعيش على الصيد ، ويحيا أهلها في أكواخ بسيطة تتميز بقواربها الزاهية الألوان التي تصطف على الشاطئ .
• من أعداد : سماء منير – مجلة العربي – العدد 408.