ديسمبر 12, 2023 - 17:25
جماعات الضغط وتأثيرها في  السياسة الأمريكية (1-3)


خالد الأشموري
من هم جماعات الضغط؟
تعد جماعات الضغط في الداخل الأمريكي مؤمنة ومطيعة لمبادئ الدولة الأمريكية وإداراتها المؤسساتية والفصل بين السلطات، حيث يشجع هذا النظام الأمريكي جماعات الضغط على ممارسة أنشطتها وتأثيرها في السلطة التشريعية والتنفيذية، وذلك وفق وسائل يجيزها التشريع الأمريكي بوصفها جهات رسمية تمثل شرائح المجتمع المختلفة أمام المشرع وأجهزته، فضلاً عن استثمار جماعات الضغط لآليات العمل الديمقراطي المتنوعة، من حرية الصحافة، وحرية التعبير عن الرأي، وممارسة التأثير داخل المؤسسات الرسمية المباشر وغير المباشر.
ولم تتوقف جماعات الضغط عن ممارسة أنشطة الضغط والتأثير منذ أن بدأته رسمياً خلال القرن التاسع عشر، ولم يحدث أي توقف أو خفوت في دور هذه الجماعات لصالح التشريعات والإجراءات الحكومية، ولهذا تطورت القوانين المنظمة لها، والأساليب المستخدمة من قبلها في أروقة السياسة، وأصبحت جماعات الضغط عملاً مشروعاً يعترف به رسمياً في نظام سياسي شديد التعقيد.
فيما تعد الجماعات بحسب "فهمي الفهداوي" الذي أستند إلى الجانب التنظيمي لتعريف جماعات الضغط، حيث عرفها بأنها تلك الجماعات المؤثرة، التي تتصف بنوع من التنظيم وممارسة الضغط السياسي على صناع السياسة العامة الرسمية، في سبيل تحقيق هدف مقصود تسعى إليه جماعة الضغط، من خلال قوتها التأثيرية ومن خلال ممارستها للضغط الفعلي والواقعي على الحياة السياسية العامة ومن حيث المفهوم العام للجماعات وفقاً لخبراء العلوم الإنسانية فأنه مثله مثل أي مفهوم في العلوم الإنسانية يصعب تحديده في قالب واحد، وقد اختلف المختصون بشأن تعريفه نظراً لتنوع اشكال جماعات الضغط وأساليبها في الممارسة وحجم تأثيرها، لكنهم متفقون جميعاً أن الهدف العام لهذه المجموعات التأثير في صناع القرار مع الأخذ بالاعتبار تمييز هذا المفهوم عن المفاهيم الأخرى المشابهة له.
ويختلف مستوى نشاط الجماعات الضاغطة حسب البيئات الاجتماعية والاقتصادية والإيديولوجية للبلد الموجودة فيه، إذ أن البلدان التي تتمتع بهجرات كثيرة وتكتلات سكانية لأصول متنوعة في منطقة جغرافية واحدة يتكون فيها نشاط متزايد للجماعات الضاغطة، وهذا ما جعل الولايات المتحدة الأمريكية تقع على رأس هرم الدول التي تنشط فيها جماعات الضغط، حيث ينتمي حوالي ثلثي الأمريكيين تقريباً إلى جماعات الضغط.
وحقيقة الأمر فأن هذه النسبة الكبيرة في الإنتماء لجماعات الضغط إلى أن الولايات المتحدة من حيث منشؤها عبارة عن دولة لوبيات، بالإضافة إلى كونها دولة مؤسسات، وذلك من جراء فلسفتها البراغماتية " الليبرالية" وقوة اقتصادها الرأسمالي ،وقطاعها الخاص الذي تقوده شركات كبرى على جميع المستويات وهو ما يدفع بجماعات الضغط إلى إيجاد قنوات تحمي مصالحها في بيئة شديدة التنافس بين المصالح المتضاربة.
وما يجدر ذكره أنه عند تعقب مسيرة جماعات الضغط وتطور نشأتها من جماعات غير منظمة إلى جماعات معترف بها قانوناً، نجد أن لعوامل الثقافة الاجتماعية والحقبة التي ظهرت فيها دوراً كبيراً في تحول الحاجة إلى الضغط والتأثير من أمر غير مقنن ويعمل به من خلف الستار إلى عملية سياسية واضحة تصرح عن مصادر تمويلها وتعلن عن حملاتها الضاغطة للحصول على تأييد الشارع الأمريكي لمواقفها.. وقد ساعد التكتل السكاني المتنوع للمجتمع الأمريكي في تطور صناعة الضغط ولعب دوراً كبيراً في تحولها إلى ماهي عليه، كذلك اسهم للصداقة الدولية التي كانت ترى أنه من الأهمية بمكان مشاركة الولايات المتحدة في نظام أمني عالمي للحيلولة دون وقوع حرب في أي مكان من العالم.
ومن أهم جماعات الضغط المؤثرة داخلياً رابطة المتقاعدين الأمريكية التي تقف على رأس هرم تلك الجماعات وقد أسست في العام 1958م ، وتمارس نشاطها على نطاق واسع كمنظمة وطنية رائدة لمن تبلغ أعمارهم 50 عاماً أو أكبر تحصد الرابطة مليار دولار تقريباً من الإيرادات سنوياً، ويبلغ عدد أعضائها قرابة 36.3مليون عضو.
تمارس الرابطة نفوذها وتأثيرها في القرار التشريعي الفيدرالي والمحلي في مختلف القضايا، وبما ينسجم مع أطروحاتهم، كقضايا الحروب الخارجية ، وبيع الأسلحة للخارج، وإصلاح الضمان الاجتماعي، والسلاح، والأدوية، وما إلى ذلك يلي ذلك شركات السلاح الأمريكية والتي تعد أحدى أهم جماعات الضغط في الولايات المتحدة ويعدهم بعض المراقبين صانعي القرار الحقيقيين، فهم القوى الخفية التي تدير وتنتج برامج ومخططات الحرب للحزب الحاكم في أمريكا ما بعد الحرب الباردة إذ لم تتوقف مصانع السلاح.
ومنذ تسعينات القرن الماضي تعددت جماعات الضغط في تجارة السلاح وهو ما جعل شبكة مصالح تجار السلاح تتطور وتمارس كل ما تملكه من وسائل الضغط والتأثير.. ومن أبرز جماعات الضغط المرتبطة بالسلاح: الاتحاد القومي الأمريكي للأسلحة (National Rifle Association) ، الذي يمارس نشاطه على نطاق واسع في الولايات المتحدة الأمريكية ويضم نحو مليون عضو موزعين على 12 ألف ناد منتشرة، فضلاً عن تمثيلها من عشرات أعضاء الكونجرس في كل جولة انتخابية يدافعون عن مصالح الاتحاد الذي ينشط الاتحاد بقوة في حملات التبرعات لمرشحي الانتخابات الرئاسية والتشريعية ، وذلك ضمن آليات حماية مصالح تجار السلاح في الولايات المتحدة وهناك أيضاً لوبي الصناعات العسكرية الذي تتصدره شركات مثل لوكهيد مارتن، وبوينغ ويعمل على تشجيع مبيعات الأسلحة والمعدات العسكرية خارجياً بشكل أساسي .
وتأتي شركات الطاقة والتعدين كجماعات بارزة في الولايات المتحدة كتلك الخاصة بشركات صناعات التعدين، التي لها دور كبير في التأثير والنفوذ على القوانين الخاصة بصناعات الفحم الحجري وخفض انبعاثات الكربون، بالإضافة إلى تعديل قوانين العمل الجماعية في القطاع ، وهناك أيضاً لوبي الشركات النفطية الذي يتولى الدفاع عن شركات النفط الكبرى التي تمتلك أصولاً عالمية.
ووفقاً ومفهوم المراقبين نجد أن سيطرة جماعات الضغط على القطاعات المركزية داخل الولايات المتحدة، فضلاً عن القطاعات الأخرى، منحها شرعية راسخة مارست من خلالها التأثير في السابق، والاستمرار في المضي قدماً من خلال استغلال قنواتها ووسائلها لتحقيق أهدافها المؤمنة بها، والأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فتأثير اللوبي يصل إلى قطاعات السياسة والاقتصاد والأمن العالمي ، التي تتفاعل فيما بينها في ظل عولمة النظام الدولي الذي تعد الولايات المتحدة على رأسه في عملية التفاعل والتأثير.
كما تتسم طبيعة عمل اللوبيات وجماعات الضغط في الولايات المتحدة بالتعقد والتشعب الشديدين، فطبيعة النظامين الاقتصادي والسياسي في الولايات المتحدة تتسم بتعدد مستوياتها ونقاط تقاطعها، فهناك المستوى المحلي والمستوى الفيدرالي، وفي كل مستوى يحدث التأثير الرسمي وشبه الرسمي وغير الرسمي.
يعتمد الشكل الرسمي على الضغط المباشر لمجموعة من الأفراد والجماعات من ذوي المصالح المشتركة على المشرعين الأمريكيين سواء من حيث تمويل الحملات الانتخابية أو التكتلات التصويتية وغيرها ومن ثم يؤثر أصحاب النفوذ ورؤساء الأموال في التشريعات الداخلية للولايات المتحدة.
وبحسب الاحصائيات فأن نسبة 65% من الشعب الأمريكي ينتسبون رسمياً إلى إحدى جماعات الضغط الموجودة على الساحة، إذ أن لهذه الجماعات دوراً في التعبير عن الرأي العام الأمريكي وتمثيلها لأهم قضاياه، بل وتؤثر بطريقة ما في مشاريع القوانين العامة في البلاد حيث تساهم جماعات الضغط بعون تنظيمي في تقديم مقترحات القوانين أو مراجعة التشريعات القائمة لتنقيحها، وهو ما يعد مهمة اساسية لجماعات الضغط التي تستثمر كثيراً في طرح كل ما يلزم للحصول على التشريع المراد إقراره.
ولهذا فأنه من الطبيعي أن تنشر دورياً مئات بل آلاف الوظائف المتعلقة بجماعات الضغط تحت تسميات مختلفة، ابرزها وظيفة المنسق التشريعيLegislative Coordinator )، ومدير العلاقات الحكومية ( Government Relation Director) ، ويشترط أحياناً للحصول على الوظيفة خبرة لا تقل عن 3 سنوات في إحدى لجان مجلسي الشيوخ أو النواب أو العمل في مكاتب أحد أعضاء الكونجرس، ويبدأ متوسط راتب هذه الوظيفة من 60 ألف دولار ويصل إلى 90 ألفاً سنوياً .
يبلغ عدد ممارسي الضغط المسجلين ( الذين سجلوا عن أنشطتهم وعن عملهم بمجال الضغط السياسي لدى الجهات الرسمية) في عام 2019 م حوالي 11 ألفاً و 885 شخصاً ، وينشط آلاف الأعضاء من جماعات الضغط المختلفة داخل الكونجرس بعد أن كانت أعدادهم لا تتجاوز 100 عضو في عام 1970م .
وتشير بيانات مركز السياسات المستجيبة ( The Center for Responsive Politics ) وهو مركز بحثي متخصص في شؤون اللوبيات والشفافية إلى إنفاق 3.5 مليار دولار خلال عام 2020م على أنشطة اللوبيات والضغط والتأثير على الحكومة الأمريكية من مختلف القطاعات والصناعات والجمعيات الامريكية، إضافة إلى لوبيات الدول الأجنبية.
وتظهر هذه الأرقام حجم التأثير الذي تمارسه جماعات الضغط والذي أصبح أمراً لابد منه في الحياة السياسية الأمريكية، فليس ثمة قرار أو تشريع يمر دون ممارسة اللوبي لنفوذه وتأثيره، وهو ما يثير التساؤل حول مدى الشرعية القانونية التي يتمتع بها القرار بعد صدوره نتيجة تأثير لوبي ما، وهل يجعل ذلك الولايات المتحدة منسجمة مع ما تدعية من قيم الديمقراطية والشفافية والالتزام الأقصى بتنفيذ آليات الحكم الرشيد.
وهناك عدد من وسائل الضغط الرئيسية لجماعات الضغط الأمريكية، ويعد المال الركيزة الأولى التي تستند إليها جماعات الضغط في سبيل تحقيق أهدافها، وهناك أمثلة كثيرة على استخدام الأموال للتأثير في القرار التشريعي في الولايات المتحدة مثل ما قامت به الجمعية الطبية الأمريكية عام 1965م من إنفاق اكثر من مليون دولار خلال ثلاثة أشهر في حملتها ضد التشريع الذي أقترحه الرئيس جونسون المتعلق بالعلاج في الولايات المتحدة الأمريكية.
وسيلة أخرى تستخدمها جماعات الضغط الأمريكية تتعلق بالتأثير في الإعلام بمختلف أنواعه، من قنوات تلفزيونية وصحف يومية ومجلات شهرية، فضلاً عن وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة.. وتهدف جماعات الضغط من خلال التأثير في الرأي العام من خلال وسائل الإعلام إلى جعل عملية صنع القرار تصب في مصلحة قضايا تلك الجماعات، إذ أنه من المعروف أن للرأي العام دوراً فعالاً في عملية صنع القرار، سواء الداخلي أو الخارجي، والحصول على تأييد الرأي العام يجلب استقراراً سياسياً للإدارة الحاكمة، ويساهم في اتخاذ قرارات مصيرية خارجية كما حصل مع القرارات الأمريكية بشأن أفغانستان والعراق وإيران وغيرها، من خلال الدعاية الإعلامية والمغالاة في تضخيم العدو" الخصم المستهدف"، وتقبل الرأي العام لما أقدمت عليه الولايات المتحدة من إجراءات.
كذلك تستخدم جماعات الضغط للوصول إلى غايتها التأثير في قرارات المحاكم الأمريكية، بحيث تعمل المجموعات على إقناع القضاة بعدالة القضية التي يدافعون عنها ، ويكون ذلك بتقديم المعلومات في صورة مذكرات قانونية أو عن طريق استخدام ما يسمى بأصدقاء المحكمة ( friends of the court)  ،وربما يسبق تأثير جماعات الضغط على التشريع الأمريكي بالتأثير المسبق على اختيار القضاة وبذل كل ما يلزم لضمان أصوات مشرعين تقف إلى جانب مصالحهم.
ومن الوسائل الجماهيرية التي تقوم جماعات الضغط من خلالها بالتأثير في مكونات المجتمع تكليف الأعضاء لإلقاء الخطب الداعمة للقضايا التي تناصرها في مختلف المدن الأمريكية، فضلآ عن إلقاء المحاضرات ونشر الكتب والمطبوعات ، والمشاركة في المناقشات السياسية كما تشجع أعضاءها على الكتابة في الصحف والنشرات الدورية، والتفاعل مع المواضيع التي تطرح في الإذاعة والتلفاز، وطرح وجهات نظرهم حتى تصل إلى جمهور أوسع.
•    ملخص من دراسة بحثية لـ سلسبيل سعيد ( مركز الفكر الاستراتيجي للدراسات)