
توفيق سلاّم
أصبحت فلسطين قضية إنسانية كبرى، وقضية رأي عالمي بالنظر إلى حجم الجرائم الإنسانية الجماعية، وغطرسة الاستعلاء الإسرائيلي في الإبادة الجماعية بتلك الوحشية في ازهاق أرواح المدنيين. خلال 40 يومًا الماضية قُصفت غزة ب 40 ألف طن من القنابل المحرمة دوليًا، وهو ما لم يحدث في أي حرب عربية سابقة..! ألم تستحق غزة بعد كل تضحياتها وبطولاتها موقفاً عربياً سياسياً واقتصادياً حازماً وحاسماً؟
شعوب الأرض مدن وعواصم العالم تتضامن مع فلسطين وغزة كما لم يحدث منذ قرن، هذه أعظم الانتصارات للقضية الفلسطينية في التاريخ الحديث والمعاصر، بينما يتواطأ الحكام العرب بالصمت والتسويف انتظاراً وتطلّعاً للإبادة الكاملة والشاملة..!
لقد اندلعت ما يشبه ثورة عالمية بالتظاهرات الغاضبة في شوارع العالم مع غزة وأهلها وضد الكيان الغاصب، لتبدو اليوم الهزيمة العسكرية قاسية وفاضحة، لأمريكا وإسرائيل والغرب. فلا ترسيم لمعادلات سياسية جديدة يظهر في الأفق القريب والبعيد، وما يحدث في غزة، وفي فلسطين عمومًا هو صراع لعقود من الظلم والاستعلاء، تبدو اليوم حقائقه على الأرض مختلفة في منطق التحدي كحالة ثورية لم تكن سابقة تاريخية فريدة، لكنها استمرار للفعل الثوري التحرري، في الصراع مع الغزاة والمحتلين.
المقاومة في غزة أسقطت الكثير من المعادلات السياسية والعسكرية التي ظن أصحابها أنها غير قابلة للتغيير أو التفوق عليها. بالنسبة لأمريكا والغرب والصهاينة لا يمكنهم استيعاب هذا الانقلاب التاريخي الذي يجري في غزة الفلسطينية، وما سيحدث لاحقا، لن تبقي المعادلات كما كانت، وبالتأكيد من سيصبر ويثبت على الأرض، سيجبر الطرف الآخر للنزول من فوق الشجرة، حتما هي الدول الإمبريالية الاستعمارية، الهاربة للأمام، وإلى نتائج عبثية لم تعد محل قبول الشعوب في تمريرها بوسائل القوة، ويعتقدون أن هزيمة "المقاومة" تحصيل حاصل، مع أن كل المعطيات على الأرض، وحتى على المستوى السياسي تقول العكس، وأن المقاومة الدفاعية الشرسة تجرى بنفس عبقرية تخطيط وأداء هجوم السابع من أكتوبر المزلزل، بالرغم من عدم التكافؤ المادي بأي حساب بين الطرفين، وميل الموازين الظاهرة، إلى ترجيح كفة العدو فى غزوه البري المتعثر الذي يستهدف المدنيين، فإن العمليات الجارية حتى اليوم لصالح المقاومة، والأسباب ظاهرة، فثمة فارق هائل لصالح المقاومة في عقيدة القتال، وفي براعة الاستخدام الذكي للأسلحة المتوافرة بين أيديها، واستخدام الأنفاق كسلاح في المواجهة.
الواقع الميداني
واقع ميداني تغامر فيه إسرائيل لتحقيق أهدافها قبل نفاد الوقت التي تستعجله أمريكا، وتستمهل إسرائيل أسابيع، بدأ عمليًا عقب إطلاق الجيش الإسرائيلي عملياته البرية في شمال قطاع غزة يوم 8 أكتوبر الماضي، لينتقل القتال في هذه المرحلة من نطاق مستوطنات غلاف غزة، التي شهدت لأيام عدة عمليات هجومية متنوعة للفصائل الفلسطينية، إلى القتال المتلاحم في محاور شمال غرب وشمال شرق وجنوب مدينة غزة شمالي القطاع، وهو ما يفرض بالضرورة خيارات ميدانية وتكتيكية مختلفة على طرفي القتال، خاصة الجانب الفلسطيني.
خطة إسرائيل
العدو يضع خرائط عملياته العسكرية على مربعات سكنية، ويبني عليها توقعاته، فيما يتعلق بتحركاته الميدانية، وهي تبدو أكثر من واضحة. ونتيجة التخبط في القرارات، وما يواجهه الجيش الاسرائيلي من ضربات ساحقة، فإنه يلجأ بين الحين والآخر إلى تغيير موقفه العسكري، وإعادة التقييم من جديد في تأكيد رغبته "لسحق" القدرات العسكرية لكتائب القسام، واجتياح القطاع بشكل كامل، نزولًا إلى محاولة تحجيم سيطرة المقاومة على قطاع غزة ولو جزئيًا، أو ما يسمى باسلوب "القظم المتتالي". هذه التغيرات الدراماتيكية كانت محصلة عدة عوامل سياسية ودولية، أضيفت إليها تحديات ميدانية جدية.
في التوقيت الحالي تركز القوات الاسرائيلية على منطقة شمال غزة، وشمال غرب غزة، "خان يونس"، وهو تركيز بدأت ملامحه عمليًا منذ الأيام الأولى التي تلت عملية السابع من أكتوبر، حيث تتالت الدعوات الإسرائيلية لسكان هذه المنطقة لمغادرتها وإخلائها فورًا إلى منطقة الجنوب في وسط القطاع، وهي دعوات تطورت مؤخرًا، لتشير بشكل أوضح إلى النوايا الإسرائيلية الأساسية لفصل المقاومة عن الحاضنة الشعبية، التي قصدت به تهجير سكان شمال قطاع غزة نحو أقصى جنوب القطاع، الذي يبعد مسافة 6 كيلو مترات فقط من الحدود المصرية.
محاور القتال
يتركز الجانب العملياتي في الهجوم الإسرائيلي البري للقوات الرئيسة على القطاع الشمالي من غزة على ثلاثة محاور رئيسة، بالإضافة إلى محاور فرعية لمساندة القوات الرئيسة، وهو ما يجعل مهمة القتال فصل شمال القطاع عن جنوبه، ويستهدف عمليًا إنهاء التواصل البري بين الشمال والجنوب، عبر قطع الطريقين الرئيسين نحو الجنوب، وهما: طريق "صلاح الدين"، والطريق الساحلي "طريق الرشيد". وفي هذا المحور تتواجه القوات الإسرائيلية مع الفصائل الفلسطينية في اتجاهين رئيسين: الأول من اتجاه الشمال "جنوب حي الزيتون وجنوب تل الهوى" وفي اتجاه منطقة "الشيخ عجلين"، والثاني من اتجاه الجنوب "شمال مخيمي النصيرات والبريج". والعدو هنا يركز أن يتقدم إلى المنطقة المحيطة بمستشفى الشفاء، ومن ثم السيطرة عليها على اعتبار أنها مركز للقيادة والسيطرة خاصة بحركة حماس، في سياق الدعاية التضليلية للعدو، بينما هو في حقيقة الأمر يستهدف ضرب البنية التحتية، وكل مقومات الحياة، وفعلا تم استهدافه كبقية المشافي التي دمرها، وهو ما يمكن النظر جعل غزة منطقة خالية من أي مقومات للحياة، واجبار السكان قسرا مغادرتها.
بعد عملية اقتحام مجمع الشفاء الطبي بساعات ظهر بيني غانتس عضو حكومة الطوارئ لدى الاحتلال الإسرائيلي في مؤتمر صحفي مصطنع، حيث تهرب من معظم أسئلة الصحافيين
فيما يتعلق باقتحام القوات الإسرائيلية لمجمع مستشفى الشفاء، بعد ضوء أمريكي أخضر وادعاءات مفبركة أن قيادة حركة حماس تتخذ منه مقرًا لها. وقد أعلنت الإذاعة الإسرائيلية أنهم لم يجدوا في مستشفى الشفاء أية أدلة على ادعاءاتهم حتى ظهر الأربعاء، علاوة على قيامهم بتدمير غرف مخازن الأدوية والأجهزة بطريقة همجية بربرية كعادتهم، وربما حاولوا صناعة نصر زائف من خلال هذه العملية التي تضاف لسجل جرائم الحرب التي يرتكبونها منذ السابع من أكتوبر الماضي، وهذا في الأخير ينم عن فشل استخباري أمريكي إسرائيلي . أهم ما في خطاب غانتس، أنه خطاب الهزيمة والانكسار والفشل والصراعات الداخلية، لقد كرر عدة مرات القول: "إننا سوف ننتصر إذا حافظنا على وحدتنا"، ومعنى ذلك أن هناك صراعات داخلية، وهذه الصراعات تتجلى في أن كل عضو من أعضاء مجلس الحرب، يعقد مؤتمراً صحفياً منفرداً بعد أن كانوا يعقدونه مجتمعين بداية الحرب، كما أن نتنياهو يختلف معهم بشكل معلن، ويتبرأ من المسؤولية. وهنا يمكن الاستنتاج من خلال معطيات المعركة أنه بعد أربعين يوماً من الحرب فإن غزة برجالها ونسائها وكل أهلها يصنعون التاريخ. وهنا تجب ملاحظة خطط العدو في محاور التقدم البري في شمال القطاع تعززها محاور أخرى جنوب القطاع، تحاول من خلالها القوات الإسرائيلية فصل عناصر الفصائل الفلسطينية عن التواصل، ومنعهم من دعم المقاتلين الموجودين في شمال القطاع. ويبدو من هذه العمليات، أن هدفها هو تحييد عناصر المقاومة الفلسطينية الموجودة في جنوب القطاع وإبعادها عن عمليات الشمال.
أسلوب التحرك التكتيكي
أسلوب تحرك القوات الإسرائيلية في محاور شمال غزة يحمل في ملامحه تكتيكًا كلاسيكيًا تم اتخاذه مرارًا خلال العمليات البرية الإسرائيلية في حرب أكتوبر 1973، وفي اجتياح العاصمة اللبنانية عام 1982، ويعتمد بشكل رئيس على القصف الجوي الكثيف، لتحقيق أكبر قدر من التدمير في البيئة الحضرية، وهو ربما ما يفسر استخدام سلاح الجو الإسرائيلي لأثقل القنابل الموجهة المتوفرة لديه، بجانب استخدامه قنابل أمريكية تعود لحقبة الحرب الفيتنامية، وهي القنابل حرة التوجيه من نوع M-117″"، التي تحمل آثارًا مدمرة على المناطق السكنية، نظرًا لأنها غير دقيقة التوجيه، بالإضافة إلى الفوسفور الأبيض وغيرها من الصواريخ والمقذوفات. بيد أن القوات الإسرائيلية لا تعتمد فقط على
القصف الجوي في زحف القوات، بل تستخدم الجرافات المدرعة الإسرائيلية الثقيلة من نوع D-9″" وهي تستخدم بنسق مشابه لنسق استخدام كاسحات الألغام، حيث تقوم بتمهيد الأرض أمام الدبابات وناقلات الجند المدرعة، بتجريف الأرض، من الألغام والمتفجرات الأخرى، ومن ثم الكشف عن فتحات الأنفاق. علمًا أن العمليات البرية الإسرائيلية في شمال قطاع غزة، شهدت استخدامًا لافتًا للعربات الهندسية المتخصصة “"PUMA"، وقد تم تزويد هذه العربات براجمات "CARPET" وهي منظومة لفتح الثغرات في حقول الألغام، يتم استخدامها أيضًا كوسيلة لتدمير المباني والعوائق الخرسانية، ومن ثم تقوم وحدات المشاة بتمشيط ما تبقى من مبانٍ، وهي استراتيجية تستهدف في الأساس تقليل الخسائر البشرية، لكنها تنضوي على مخاطر كبيرة تتعلق بزيادة حجم الخسائر في القوات المدرعة.
تحديات القتال في البيئة الحضرية
بالنظر إلى الجانب الفلسطيني في هذه المواجهة البرية، يمكن القول إن العنصر المتعلق بطبيعة البيئة القتالية الحالية في شمال غزة يعد من أهم الأوراق الميدانية المتوفرة للفصائل الفلسطينية، فبطبيعة الحال يعد انتقال القتال إلى بيئة أكثر كثافة على المستوى الحضري، تعد من أبرز التحديات الميدانية التي تواجه أية قوة نظامية، وهو ما يمثل في نفس الوقت فرصة ميدانية ايجابية لفصائل المقاومة المتمرسة في أساليب حرب العصابات والكمائن والإغارات، واستخدام الأنفاق في تنفيذ العمليات الهجومية، وكذا الدفاعية. وبالإضافة إلى الكثافة السكانية، يضاف إليها عامل آخر يرتبط بالتضاريس الحضرية الكثيفة والمعقدة في قطاع غزة، والتي تحد بشدة من قدرة الجنود والمركبات المدرعة على المناورة، حيث وجدت وحدات المشاة الإسرائيلية صعوبة في التحرك بسرعة والحفاظ على تشكيلاتها وسط الشوارع الضيقة والمباني المكتظة، فضلًا عن أن هذه الوحدات تضطر أحيانًا إلى الانتظار لحين تدخل سلاح الجو لتدمير المنازل والمباني التي تعوقها، ما يضع هذه الوحدات في مرمى الصواريخ المضادة للدبابات وقذائف الهاون، خاصة أن وسيلة الحماية الوحيدة لقوات العدو خلال وقفاتها التعبوية أو خلال عمليات تزودها بالوقود والمؤن تكون السواتر الترابية التي يتم تعليتها حول مواقع وجودها لحماية الدبابات والعربات المدرعة، وهي وسيلة أثبتت التجربة الميدانية أنها غير فعالة فيما يتعلق بقذائف الهاون. هذا فضلاً عن التحديات الأخرى التي تفرضها البيئة القتالية الحضرية بتأثيراتها السلبية على التواصل البصري واللاسلكي بين القوات وبعضها البعض، حيث تؤثر التضاريس غير المنتظمة بالسلب على جودة الإرسال اللاسلكي بين الوحدات المدرعة ووحدات المشاة ومراكز القيادة، ما يتولد عنها صعوبات عملياتية كبيرة، ناهيك عن تأثير هذه التضاريس على عمليات إعادة الملء والتذخير، والتي تتم عمليًا تحت النار، وفي ظل بيئة معادية.
الورقة الأهم
الورقة الأهم في يد الفصائل الفلسطينية في هذا الصدد تتعلق بما توفره البيئة الحضرية لمقاتليها من قدرات على تنفيذ الكمائن المختلفة ضد قوات العدو المتقدمة على الأرض، حيث أثبتت المواجهات التي تمت خلال الأيام الماضية امتلاك هؤلاء المقاتلين القدرة على استهداف الوحدات المدرعة الإسرائيلية بشكل فعال من مناطق مموهة جيدًا ومن وسط أنقاض المباني. وما يزيد من تعقيدات حرب المدن، هو التهديد الذي تشكله شبكات الأنفاق التي أقامتها الفصائل الفلسطينية في أنحاء قطاع غزة، حيث تم استخدام هذه الأنفاق بشكل فعال خلال المواجهات البرية الحالية، سواء كنقطة لانطلاق المقاتلين لتنفيذ هجماتهم، أو كمواضع لإعاشة المقاتلين وتخزين الذخائر، ناهيك أن هذه الأنفاق تمثل في حد ذاتها تحديًا كبيرًا للعمليات العسكرية التقليدية، لأنها تلغي العديد من المزايا التكنولوجية للجيوش الحديثة وتتطلب معدات وتكتيكات متخصصة لمواجهتها. من جانب آخر، يعد القتال المباشر ضد الأسلحة المضادة للدبابات بشكل عام في المناطق الحضرية من أصعب أنواع القتال على الوحدات المدرعة، حيث تسمح كثافة المباني للعناصر الحاملة للأسلحة المضادة للدبابات بالاشتباك مع الدبابات والمدرعات من مواضع يصعب اكتشافها واستهدافها.
النقطة الأبرز في هذا الجانب، تتعلق بتكتيك استخدام الفصائل الفلسطينية للقواذف المضادة للدبابات، وعلى رأسها قاذف "الياسين 5" من عيار 105 ملم، وهو نسخة مماثلة للقاذف السوفيتي الترادفي "RP G-7 V" بنسخه المتعددة المخصصة للتعامل مع الدروع التفاعلية عبر آلية تفجير مزدوجة. هذا القاذف ظهر للمرة الأولى بنسخته الأولية ذات الرأس الحربي الأحادي في تسليح الفصائل الفلسطينية منذ منتصف 2004، وقد تكون هنا مسألة التطوير في زيادة حشوة الرأس الحربي.
وتعد المعارك الحالية هي الاستخدام الميداني الأول له، حيث يبلغ مداه المؤثر 150 مترًا، وتبلغ الزنة الإجمالية للمتفجرات الخاصة برأسه الحربي المزدوج 1.4 كيلو جرام. ويتكون هذا الرأس من جزأين: الجزء الأول من عيار 64 ملم، والثاني من عيار 105 ملم، يعطيان مجتمعين لهذا القاذف القدرة على اختراق الدروع التفاعلية، ذات السماكة 600 ملم في الدروع المتجانسة الخاصة بالدبابات الاسرائيلية.
يضاف إلى ذلك الفهم الواضح من جانب عناصر المقاومة الفلسطينية لآلية عمل منظومات آلياته ومعداته الحربية. فمثلاً الدبابات الإسرائيلية الحديثة والآليات المدرعة، تتوفر لديها حماية من مخاطر المقذوفات المضادة للدبابات، وهو ما يفسر عدم تمكن النسخة الأحدث من دبابات "ميركافا - 4″، المعروفة باسم (باز) من تفعيل منظومة "تروفي" الموجودة على متنها، والتي تتألف من مجموعة من المستشعرات تقوم في حالة رصد اقتراب مقذوف مضاد للدبابات بإطلاق شحنة متفجرة مضادة لتدميره قبل وصوله للهدف. فقد أثبتت التجربة الميدانية أن كفاءة هذه المنظومة تتأثر بشكل كبير في حالة القتال بين العوائق الخرسانية، ناهيك عن عدم تمكنها من التصدي للمقذوفات التي يتم إطلاقها من مسافات تقل عن 60 مترًا.
اتبعت المقاومة هذا التكتيك في التعامل مع دبابات "الميركافا" وغيرها من العربات والآليات في شمال غزة بشكل ناجح، وانعكس أيضًا على تعاملهم مع منظومة القتل السهل "ألوكس" التي زودت بها بعض الطرازات القديمة من دبابات "ميركافا" وبعض الوسائط المدرعة الأخرى وعلى رأسها جرافات "D-9" التي تعد رأس الحربة في التحركات البرية الإسرائيلية الحالية في شمال قطاع غزة. تعمل هذه المنظومة على التشويش على آلية توجيه الصواريخ المضادة للدبابات العاملة بالأشعة تحت الحمراء، وبالتالي ظهر ميدانيًا أنها عاجزة عن التعامل مع القواذف المحمولة على الكتف المضادة للدبابات مثل قاذف "الياسين-5"، وهو ما جعل آلية الحماية الوحيدة المتوفرة لهذه الجرافات هي تدريعها الذاتي.
وعطفًا على ما سبق يمكن القول إن المعركة البرية في غزة تتضمن صعوبات كبيرة، وهي من أصعب حروب المدن التي تواجهها القوات الإسرائيلية، بأشكالها وأساليبها المتنوعة، يجعل الأفضلية فيها لصالح المقاتل الفلسطيني، بالرغم من واقع الوضع الميداني الذي عزلت فيه القوات الإسرائيلية شمال قطاع غزة عن جنوبه، وهو ما يعني عمليًا أن عناصر المقاومة الفلسطينية في شمال القطاع باتت تقاتل دون إمداد من الجنوب إلا في حالة استمرار وجود أنفاق تربط بين الشمال والجنوب، وهو ما يفرض على هذه العناصر التمسك بالأرض، وعدم السماح للعدو بالتوغل، مهما كلف الأمر، مع الاستمرار في تنفيذ الهجمات، وزرع الألغام، والقيام بعمليات الكمائن والاغارات، مع عدم الانقطاع عن القيام بهجمات مكثفة، ليلية ونهارية، لاستنزاف العدو وإنهاك وحداته وصولاً إلى تشتيت جهده الميداني، وسيكون من الأجدى تشكيل فرق انتحارية، لايقاع خسائر كبيرة في صفوف العدو. وهنا لابد من التذكير أنه في حرب عام 82 على لبنان أوقع حزب الله في يوم واحد 4000 قتيل إسرائيلي كانت تلك المذبحة كارثة كبرى لإسرائيل جعلتها تقرر الانسحاب فورًا من لبنان. فالفصائل الفلسطينية تعي جيدًا أن معركة شمال قطاع غزة لن تكون هي الأخيرة، وأن رغبة الجيش الإسرائيلي في تهجير أهالي القطاع نحو منطقة "المواصي" القريبة من الحدود مع مصر تعني بالضرورة أنه بصدد إطلاق مرحلة ثانية من العمليات البرية، قد تشمل القطاع الأوسط الذي يضم مخيم النصيرات ومدينة دير البلح.
ترتيبات أمريكية صهيونية
هناك العديد من السيناريوهات تطرح، حول قطاع غزة في إطار خطط وترتيبات أمريكية -إسرائيلية لإعادة احتلال غزة، ومن بين ذلك جلب حكومة موالية لإسرائيل لحكم "غزة"، وهذا ربما ما كشفت عنه التصريحات الرسمية، من رفض مسؤولين فى سلطة "رام الله" الذهاب لحكم "غزة" على ظهر دبابة إسرائيلية، بينما تحاول واشنطن توريط السلطة في الخطأ القاتل، ولومن وراء ستار البحث عن حل سياسى شامل، يعرف الكل أن كيان الاحتلال يرفضه، ولو كان فى صيغة الحد الأدنى "لحل الدولتين".
أو الاستعانة بالوكلاء والتابعين من حكومات التطبيع العربي، وجلب شخصيات فلسطينية معينة، إلى "غزة"، مع وعود مالية سخية بالطبع، يدفعها بعض العرب أو الغرب الجماعى، كما جرى الوعد به أخيرًا في اجتماع "دول السبع" الكبرى فى اليابان، وقرارهم بتوفير 500 مليون دولار لإعادة تعمير غزة..!، إضافة لمساعي جلب قوات عربية وغربية إلى غزة، ومن وراء إدعاءات "أممية"، يصعب تمريرها فى مجلس الأمن بسبب "الفيتو" المتوقع من الصين وروسيا. ويتزامن ذلك مع مساعي أمريكية إسرائيلية وعربية لاطلاق سراح الأسرى والرهائن تشترط حماس تبييض السجون الإسرائيلية، بشكل متدرج.
ما يستوجب التحذير منه، وبالذات الأطراف العربية التى قد تتورط بالقصد أو بدونه فى الخديعة المكشوفة، فقد آلت قضية فلسطين إلى يد الفلسطينيين وحدهم من عقود، ربما لا يكون هناك من حل مناسب، لأن الداخل الفلسطيني يرفض أي تواجد للاحتلال على أرضه.. وأي تسوية، لن تكون إلا نقطة عبور، على أن يترك الأمر كله للمنظمات الفلسطينية، لتوحيد جهدها فى عملية وطنية شاملة للتحرر الوطني، مالم تكون هناك تسوية شاملة لحل الدولتين على حدود الرابع من يونيو 1967.