أروى حنيش
الحقيقة التاريخية التي ينبغي استجلاؤها وقرأتها بشكل دقيق فيما يحدث في غزة هو أن المقاومة الفلسطينية قلبت الطاولة على الجميع، وأسقطت المعادلات التي اعتبرت القضية الفلسطينية من الماضي. وهذا ما يعطينا الضوء في قيمة التحليل لمختلف الشروط التي أملت المواقف الجسورة تجاه ما حدث يوم 7 من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، من زلزال عنيف هز أركان الكيان الاسرائيلي، وأسقط منظومته الدفاعية والأمنية ومعادلات التفوق التقني، والاستخباري، وجعلت إسرائيل أمام تشظي حقيقي وأمام محنة وكارثة تاريخية لن تنمحي بسهولة إلا بعد عقود طويلة، قياسًا للفشل الذي ظهر به الكيان كدولة عاجزة عن المواجهة العسكرية، وهي تعد مستوطنيها بالأمان والرخاء والاستقرار، وبقوة الدولة وجيشها الذي لا يقهر، وإذا بها أمام ساعات من هجوم كتائب القسام تنهار كليًا، ويكتنفها التخبط والارتباك، حتى أن التشكيلات العسكرية الإسرائيلية أخذت تقتل بعضها البعض، وطيران الأباتشي يحلق ليقصف الجميع. أمام هذا الزلزال المريع الذي هز مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية، بل وعم هالته المنظومة الاستعمارية الغربية بكاملها. كان الخوف الأمريكي قد سبق الجميع إلى دعم ومساندة الدولة العنكبوتية، بالجنود من قوات المارينز، وشحن الأسلحة والذخائر بصورة مستعجلة، وتبع ذلك حاملات الطائرات لإنقاذ الموقف حينما تعالى صراخ إسرائيل وعويلها إلى نجدتها.
خرائط المشهد
بدت الخطوط التي رسمت خرائط المشهد وردود الأفعال متشابكة ومعقدة، ومع كل هذا التداخل، بدت ردود الأفعال انفعالية خاصة من بعض الأطراف الغربية والعربية التي وجهت إدانتها المباشرة ضد حماس، وجيرت هذا الهجوم بأنه عمل إرهابي. تلك كانت الرواية السمجة التي أرادت من خلالها تحشيد وتأليب المجتمع الدولي للتضامن مع إسرائيل، لتمنح إسرائيل إجازة الإبادة الجماعية في التطهير العرقي، كانت تلك المقدمات واضحة إلى حد كبير فهمها العالم للتو.
فالدول التي طبعت مع الكيان الصهيوني، أو هي بصدد التطبيع، حتى وإن بدت الخطوات بطيئة والألسن متلعثمة لم تسند المقاومة، ولم تجرؤ بعض الأنظمة العربية، حتى على إصدار مواقف واضحة تدين العدوان، بل ذهب بعض منها إلى إدانة المقاومة، وساوت بين الجاني والضحية، ولم تتدرج في موقفها إلا قليلاً، حين بلغت المجازر أوج وحشيتها، فدعت إلى حماية المدنيين ووقف إطلاق النار. الدول العربية والاسلامية التي دعت إليها السعودية، وخرجت ببيان يتيم وفي كل تلك المفردات التي صاغت بها مواقفها، لا شيء يوحي أننا أمام كيان غاصب يحق للشعب الفلسطيني أن يقاومه بكل ما أوتي من وسائل القوة والإمكانات المتاحة. فقد عرفت هذه الأنظمة، منذ عقود، بمواقفها السلبية في جل الصراعات في المنعطفات التاريخية المختلفة الذي شهدها الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي ودفع الشعب الفلسطيني ثمنا باهظًا من التضحيات الجسيمة في الدفاع عن أرضه ووجوده الإنساني وحقه في العيش الكريم. فقد ظهر التناقض متباينًا وجليًا وساطعًا بين مواقف النخب العربية والشارع العربي في ردود أفعاله الغاضبة في مظاهرات ومسيرات وتجمعات عبرت فيها الجماهير عن سخطها وغضبها ومساندتها غزة الجريحة، بينما لم تظهر لقيادات الرأي فيها من سياسيين مواقف وإدانات، وتحشيد للجماهير فقد لاذت معظمها بالصمت.
السلطة الفلسطينية
تشكل سلطة أوسلو في الضفة الغربية النموذج المثالي لحالة التطبيع الرسمي الذي دفع السلطة هناك إلى تبني خطاب متلعثم تجاه ما يجرى في غزة. ولا شك في أن منع التظاهر ومصادرة حريات التعبير والرأي، علاوة على غياب فضاء عمومي حر كرس هذه الوضعية، خصوصًا في الأيام الأولى، بل عمدت قوى الأمن هناك إلى شن حملة اعتقالات، شملت أنصار تنظيمات فلسطينية، وخصوصًا حركتي حماس والجهاد الإسلاميتين، بل ذهب الرئيس محمود عباس إلى سحب الشرعية القانونية والأدبية مما قامت به "حماس"، مساويًا بين الكيان المحتل والمقاومة. ورغم تراجعه لاحقًا، على اعتبار أن حديثه خرج من سياقه السياسي، ظل الأمر غاضبًا ملتبسًا. وعلى الأرض، تجري اشتباكات بين المقاومة وقوات الاحتلال، فضلاً عن أشكال مختلفة من تضامن أبناء البلد الواحد.
في حين خبأ كل صوت عربي في الدول التي طبعت حكوماتها مع الكيان الصهيوني، بل وظهرت القنوات الفضائية العربية بصورة فاضحة في مساندتها للعدو الإسرائيلي، في نقلها لاخبار وتصريحات الكيان الصهيوني، إذا ما استثنينا البعض منها، فقد حاولت وسائل الإعلام أن تشد إليها الدعاية الغربية عن إرهاب حماس، وتسوق هذه الدعاية على نطاق واسع، رغم ما يعتمل في قلوب الناس وأفئدتهم من مشاعر الحزن والألم لتلك الجرائم الإنسانية الفضيعة في القتل الجماعي، وبتلك الوحشية السافرة والغطرسة الاستعلائية التي اعتبرت شعب فلسطين مجرد "حيوانات بشرية". كما أن المشهد الإعلامي، الرسمي منه تحديدًا، كاد ينقطع عن تغطية المشهد الدامي في غزة. أما في الأردن، على الرغم من علاقات التطبيع بين الحكومة ودولة الاحتلال، فإن المشهد السياسي تعددي، وتحرص المنظمات المهنية والأهلية على الدفاع عن القضايا القومية للأمة. وفي مصر، دفع اقتحام آلاف المصريين ميدان التحرير في القاهرة لأول مرة منذ أحداث سنة 2013 للتظاهر نصرة لغزة السلطة إلى الإقدام على حملة اعتقالات، سرعان ما دفعت المتظاهرين إلى الانكفاء والتراجع، غير أن الجماهير المصرية التي تراجع حراكها لا يمكن كبح مشاعر غضبها، لذلك اشتبكت مرارًا مع قوات الأمن التي حاولت منع اعتصاماتها، وما زال حراك الشعب المصري ظاهرًا من أجل إعلاء صوته العربي المناصر لفلسطين. أما المغرب الذي عرف تاريخيًا بمساندة القضايا العربية، والذي شهدت ساحاته أكبر المظاهرات العربية نصرة للعراق والانتفاضات الفلسطينية المتتالية، فإن نبض شارعه، وإن خبا نسبيًا، ظل منتفضًا مساندًا المقاومة، وشهدت كبرى المدن المغربية مظاهرات حاشدة، وكانت اليمن أكبر ساحة للتظاهرات والتضامن مع القضية الفلسطينية، فيما قررت حركة أنصار الله الدخول في المعركة عمليًا، وضرب أم الرشراش بصواريخ ومسيرات بعدة هجمات، وصدر بيان عنها باستهداف أي سفن أو تحركات إسرائيلية في البحر الأحمر وباب المندب.
استثمار القضية الفلسطينية
أنظمة عربية عديدة عاشت عقوداً، وهي تستثمر القضية الفلسطينية لإحكام قبضتها على شعوبها وتخوين المعارضين، أما البلدان التي ما زالت تناهض التطبيع فقد صدرت عنها مواقف رسمية مساندة للمقاومة الفلسطينية، دانت الاعتداءات الإسرائيلية. صاغت مواقفها بعبارات مختلفة، فمنها من استند إلى سجل الشرعية الدولية، ومنها من استند إلى حق مقاومة المحتل، ومنها من استحضر تاريخًا طويلاً من الاستعمار الاستيطاني البشع ... إلخ، وقد تناغمت هذه الدول في مواقفها الرسمية، إلى حد ما، مع المواقف الشعبية. لقد شهدت هذه البلدان مظاهرات سلمية، أطرتها الأجهزة الأمنية، وشاركت فيها معظم الفعاليات المجتمعية والسياسية، كما تولى الإعلام تغطية الحرب، كما عرفت أيضًا مبادرات رسمية ومدنية من أجل جمع التبرعات لغزة. حدث ذلك في تونس والجزائر وليبيا وغيرها. وفي هذا التطابق، أحيانًا على مفارقات كثيرة. ثمّة أنظمة عربية أقرب إلى الشمولية، ففي حين أنها تضيق على حرية التظاهر كلما تعلق الأمر بمسائل وطنية داخلية، كالحريات وغلاء الأسعار، إلا أنها أبدت تسامحًا مريبًا مع التظاهر نصرة لغزة. ولعل هذا الأمر ينطوي على كثير من الدهاء، يُراد منه تنفيس الاحتقان المتراكم وقطع الاهتمام بالمشكلات المتراكمة على المستوى المحلي.
ومعلوم أن أنظمة عربية عديدة عاشت عقودًا، وهي تستثمر القضية الفلسطينية من أجل إحكام قبضتها على شعوبها وتخوين المعارضين باسم ضرورة التفرغ لمصارعة الإمبريالية والرجعية: كانت مصر عبد الناصر وعراق صدام حسين وسورية حافظ الأسد نماذج للتوظيف السيئ للقضية الفلسطينية، من أجل قمع شعوبها. لقد تراجعت هذه الحالة، ولكن ظلالها ما زالت متواصلة إلى حد ما.
وبغض النظر عن مآلات العدوان الصهيوني على غزة، فإن آثارها ستظل غائرة في وجدان سكان غزة، غير أن جملة من التحولات العميقة قد بدت تتشكل تدريجيًا، لعل أهمها أن أجيالاً شبابية في العالم العربي، والعالم عمومًا، قد ساندت المقاومة وساندت القضية الفلسطينية، واعتبرتها حقّا مشروعًا. ولازم هذا الموقف تمييز واضح بينها وبين مشروعية الدفاع وبين الجرائم الإنسانية بحق المدنيين. ولا شك أن شرخًا وجدانيا غائرا حفر بين الغرب و"نحن". ربما قد تتشكل في السنوات المقبلة ثقافة ما ترغب في التخلص من الإرث الثقافي الغربي المتطرف المصاب بالأحقاد والكراهية خارج مركزيته المريضة.
تصفية القضية الفلسطينية
قطعًا، غزة هي أحد الأهداف السياسية الاستراتيجية على طريق تصفية القضية الفلسطينية، وفرض رؤية وشروط الكيان الصهيوني حول مضمون الدولة المطلوب إقامتها على أرض فلسطين المحتلة، بحيث تبقى دويلة "حكم ذاتي"، ومحاصرة من جميع الجهات، وبدون سيادة ولا حدود ثابتة، ولا جيش، ولا استقلال وطني حقيقي، وهذا ما يحاول الكيان الصهيوني فرضه وتطبيقه على شعب فلسطين المحتلة، وهو الخيار الذي تنامى وكبر وتعملق بعد عقد صفقة تسوية أوسلو البائسة 1993، بقيام كيان فلسطيني هزيل، يحركه ويتحكم به الاحتلال، لا هو دولة ولا هو مقاومة، ولا حتى "سلطة حكم ذاتي". وما هو حاصل سلطة تمثيل لشبه دولة، يأخذ رئيسها أمر تحركه وانتقاله من منطقة إلى أخرى، من الأجهزة الأمنية الصهيونية، وهي المعادلة الراسخة اليوم في العقل السياسي الصهيوني والأمريكي.
تحشيدات أمريكية
التحشيدات العسكرية والأمنية الأمريكية في منطقتنا وعلى حدود غزة، تفوق ما حشدته أمريكا لدعم الكيان الصهيوني في حرب أكتوبر 1973م، بل إن بعض المحللين العسكريين يرون أنها أكبر وأكثر من تحشيداتها لعاصفة الصحراء، فأساطيلها وبوارجها تحمل 170 طائرة حربية،
وهي في الأخير تفوق الاحتياجات الصهيونية. والأهم أن الدعم الأمريكي للكيان في كل الحروب السابقة، اقتصر على الدعم العسكري والمالي واللوجستي، أما اليوم فإن أمريكا تشارك بالفعل في الحرب ضد الفلسطينيين، وتطالب الآخرين بأن لا يتدخلوا في الحرب، منطق استعماري جديد، يعكس روح وحالة الغطرسة، والخوف معًا.
القضية أكبر من "غزة"؛ هي مواجهة ذات طابع استراتيجي دولي، لإعادة صياغة خارطة المنطقة والعالم، جيوسياسيًّا، وعسكريًّا، واقتصاديًّا، خاصة بعد صعود القوة العسكرية الروسية المستقلة، والقوة الاقتصادية والعسكرية الصينية، والتحولات السياسية والعسكرية في إفريقيا المنادية بالاستقلال عن الغرب الاستعماري الفرنسي، حماية لثرواتهم ومصالحهم الاقتصادية، إلى جانب صعود تشكيلات سياسية واقتصادية إقليمية دولية، تنادي بالاستقلال عن هيمنة "الدولار" وعن السياسية الاقتصادية الاستعمارية الغربية، "بريكس"، و"شنغهاي"، و"الاتحاد الإفريقي"، بدأ صوتها يرتفع وتحركاتها تشي بالضرورة العالمية لميلاد نظام سياسي اقتصادي متعدّد الأقطاب، فضلًا عن الأزمة الأوكرانية، والأزمة الأمريكية الداخلية الانتخابية لـ"بايدن"، في مواجهة ترامب، بعد أن بدأت القبضة الأمريكية السياسية والأمنية والعسكرية الأمريكية تضعف في مواقع عديدة: العراق، أفغانستان، بل وحتى على بعض الحلفاء التقليديين.
مجازر إنسانية
ما نشهده اليوم أسوأ من حرب عسكرية، إنها المجازر وحروب الإبادة الجماعية "عقاب جماعي"، ضد الفلسطينيين، خارج القانون الدولي، والإنساني، سوى الحرب الإعلامية التي يشنها الإعلام الصهيوني، والتي يردد سرديتها بالحرف الإعلام الأمريكي والأوروبي العنصري ضد المقاومة الفلسطينية.
ومع ذلك لم يتوقف الخطاب الأمريكي/ الأوروبي عن الإعلان عن دعمه السافر والمطلق للكيان الصهيوني، ومن أنه من حق الكيان الصهيوني الدفاع عن نفسه. هذا الاستباح للدماء هي بموافقة أمريكية - أوروبية لدولة الكيان الصهيوني باستمرار القتل في كل فلسطين من غزة إلى الضفة الغربية.
فهناك ما يوحد بين أمريكا والكيان الصهيوني إلى هذه الدرجة من البشاعة في ارتكاب الجرائم الإنسانية، وفي أنهما معًا، دولتا عدوان واستيطان على أرض شعب آخر، كلاهما قدما من الخارج ومحكومان بالعقلية الاستيطانية الاستعمارية، ومن هنا عمق الصلة الوجدانية الجامعة بينهما.
وفي الأخير، فإن السابع من أكتوبر 2023م، قال كلمته بتغيير الصورة النمطية حول كل ما هو حاصل في المنطقة والعالم، وعلينا أن نفهم جيدًا رسالة الحشود بالأساطيل والبوارج والفرق العسكرية المختلفة، التي استجلبت واستقدمت إلى قلب المنطقة والمناطق الحساسة في العالم، لأننا قد نجد أنفسنا بعدها أمام نهايات مفتوحة على كل الاحتمالات.