نوفمبر 16, 2023 - 04:32
مستقبل الحرب الاوكرانية ونظام زيلينسكي في ظل حرب الشرق الاوسط

أنس القباطي

بدأ نظام زيلينسكي يستشعر مخاطر تحيط به من الداخل والخارج مع تصاعد ازمة الشرق الاوسط منذ اندلاع حرب غزة، ما جعله يتخبط محاولا تثبيت قدميه تحسبا للقادم، لكن الفساد المتغول والصراعات الداخلية التي تعصف به لا تساعده في الوقوف على ارضية صلبة. 

يقول أوليغ سوسكين، المستشار الرئاسي الأوكراني السابق ان الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي سيعزل من أجل الوصول الى حل للصراع المسلح الذي تشهده البلاد منذ نهاية فبرائر/شباط 2022، موضحا في حديث له السبت 11 نوفمبر/تشرين ثان 2023 ان زيلينسكي لم يعد قادرا على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، منوها الى ان تحييد الرأس بات ضرورة من اجل الولوج الى السلام، مبينا ان فكرة عزل قيادة البلاد اصبحت التوجه السائد في أوروبا للوصول الى وقف اطلاق النار، ولفت سوسكين الى ان زيلينسكي اصبح يعيش حالة هستيرية. بالفعل، ومثله مدير مكتبه أندريه يرماك، مؤكدا ان المرحلة القادمة ستكون بدون زيلنسكي ويرماك.

وجاء حديث سوسكين في وقت بدأت فيه الصحافة الغربية تتحدث بشكل متزايد عن سأم أمريكي وأوروبي من الحرب الأوكرانية، فضلاةعن تراجع الدعم الغربي لنظام زيلينسكي. وبدأ الدعم الغربي يضعف بعد اندلاع الحرب في الشرق الاوسط في 7 أكتوبر/تشرين اول 2023 بين المقاومة الفلسطينية والجيش الصهيوني في غزة بفلسطين المحتلة، حيث توجهت الانظار في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا نحو الشرق الاوسط، وبدات تدير ظهرها للحرب في اوكرانيا.

من جانبها قالت صحيفة "تلغراف" البريطانية أن إخفاقات الجيش الأوكراني على الجبهة كسرت الرئيس فلاديمير زيلنسكي، مشيرة إلى أن الخلافات بين القيادتين السياسية والعسكرية بدأت تطفو على السطح، بعد ان ظلت سرية خلال الفترة الماضية، معتبرة ظهور الخلافات الى العلن مؤشر على أن زيلينسكي بات منكسرا، ونوهت الصحيفة الى ان مثل هذا الانقسام المفتوح بين الجيش والسياسيين في كييف اصبح واضحا بعد 20 شهرا من الأعمال القتالية، كاشفة ان السلطة السياسية الاوكرانية لم تعد راضية حقا عن الوضع على خطوط المواجهة، والذي وصل إلى طريق مسدود، مشيرة إلى أن الرئيس زيلينسكي انتقد للمرة الأولى قائد الجيش الأوكراني، فاليري زالوجني، بعد أعلانه عن حالة جمود القوات الأوكرانية على الجبهة. ويعد اعلان قائد الجيش الاوكراني عن الجمود العسكري بمثابة فشل للهجوم المضاد الذي روجت له وسائل الاعلام الغربية بأنه سيعيد الاراضي الاوكرانية التي سيطر عليها الجيش الروسي، ورغم فشل الهجوم من ايامه الاولى إلا ان الاعتراف لم يأتي الا بعد 5 اشهر من اعلان انطلاقه باتجاه جنوبي دونيتسك وأرتيوموفسك وزابوروجيه، بمشاركة وحدات قتالية دربت على ايدي خبراء من حلف الناتو وسلحت بأسلحة ومعدات غربية.

ومؤخرا كشفت شبكة NBC الأمريكية أن مسؤولين أمريكيين وأوروبيين بداوا بالفعل النقاش مع القيادة الاوكرانية حول العواقب المحتملة لأي محادثات سلام مع الجانب الروسي، وبحسب الشبكة شملت المحادثات الخطوط العريضة لما قد يتعين على أوكرانيا التخلي عنه من أجل التوصل إلى اتفاق.

ومنذ انطلاق عملية طوفان الاقصى في غزة بفلسطين شعرت القيادة الاوكرانية بان الدعم الغربي لكييف سيتراجع، وحاولت مرارا التحذير من ذلك، غير ان السأم الغربي بدا واضحا من فشل الجيش الأوكراني في تحقيق تقدم ميداني يغير موازين الحرب، وتنامي عمليات الفساد في مختلف مفاصل الجيش والحكومة، والذي وصل حد بيع الاسلحة الغربية في السوق السوداء، في وقت تسود فيه مخاوف من وصول بعض تلك الاسلحة الى المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة عبر شبكات مهربي الأسلحة.

ومع شعور القيادة الاوكرانية بالسأم والتململ الغربي منها، وتأكدها بأن الغرب بدأ يوجه انظاره نحو الشرق الاوسط؛ بدات بالاشتغال على الجانب الدبلوماسي في مسعى لتثبيت قدميها على ارضية صلبة في المرحلة القادمة. وفي هذا السياق اعلنت الخارجية الأوكرانية في اكتوبر/تشرين اول 2023 عن اجتماع تم الترتيب لعقده في مالطا يومي 28 و 29 من الشهر نفسه لمناقشة ما اسمته "صيغة السلام" وفق المقترحات التي وضعتها كييف، مشيرة الى ان اجتماع مالطا يعد امتدادا لاجتماع يونيو/حزيران 2023 الذي عقد في كوبنهاغن، واجتماع أغسطس/آب من نفس العام الذي عقد في جدة بالمملكة العربية السعودية، وقبل انعقاد القمة نشر مكتب الرئيس زيلينسكي وثيقة حملت عنوان "فلسفة صيغة السلام الأوكرانية" مكونة من 10 نقاط، تتضمن رؤية الرئاسة الاوكرانية للسلام مع روسيا.

ومن خلال اجتماع مالطا الذي حضره مستشارون للامن القومي من نحو 65 دولة بدون مشاركة روسيا، سعى النظام الاوكراني لتشكيل جبهة حلفاء عريضة قبل الولوج الى قاعة المحادثات المرتقبة مع روسيا، ويرى متابعون ان زلينسكي اراد من هذا الاجتماع لتقديم نفسه لحلفاء بلاده بانه اصبح رجل السلام الاول، بعد ان كان يقدم نفسه كرجل الحرب الاول، لقطع الطريق على اي شخصية أخرى تسعى لتقديم نفسها لداعمي كييف كرجل سلام. وفي قاعة احتفالات بأحد اشهر فنادق مالطا إلتأم الاجتماع المغلق الذي قدمت فيه اوكرانيا خطتها للسلام، وبحسب وكالة رويترز كان ابرز ما تضمنته الخطة؛ الدعوة لاستعادة وحدة أراضي أوكرانيا، وانسحاب القوات الروسية، وحماية إمدادات الغذاء والطاقة، والسلامة النووية، والإفراج عن جميع الأسرى، لكن وسائل اعلام غربية قالت ان الاجتماع اصاب كييف بخيبة أمل نظرا لغياب الحماس الغربي في التعاطي مع خطة زلينسكي للسلام، مرجعة ذلك لانشغال المؤسسات الدبلوماسية والاستخباراتية الغربية بالوضع في الشرق الاوسط. ويرى محللون ان عدم التعاطي الغربي مع الخطة الاوكرانية يرجع الى محاذير سياسية وعسكرية منعت المشاركين في الاجتماع من ابدا الرأي في تفاصيل الخطة، نظرا لعدم وضوح طبيعة الازمة في الشرق الاوسط التي ما تزال تشهد تصعيدا غير متوقع التداعيات، مبينين ان كييف تسرعت في الدعوة للاجتماع، معتبرين ان سبب التسرع مرتبط بمخاوف زلينسكي من استبعاده في المرحلة القادمة.

ويعتقد مراقبون للوضع في اوكرانيا ان تراجع الاهتمام الغربي بحرب اوكرانيا بالتزامن مع اهتمامهم بحرب غزة سيؤدي الى توسع الخلافات بين القيادتين السياسية والعسكرية في اوكرانيا، وبالتالي تغول الفساد الذي اصبحت رائحته تزكم الانوف، وتغول الفساد في مفاصل القوات المسلحة الاوكرانية سيعمل بدوره على تراخي الجبهات وحصول انهيارات. ويبدو ان القيادة العسكرية الاوكرانية لم تعد قادرة على تحجيم الفساد في مفاصلها، يتضح ذلك من خلال أعلان وزارة الدفاع الأوكرانية الجمعة 10 نوفمبر/تشرين ثان 2023 نيتها صبغ الوقود المخصص للقوات المسلحة كوسيلة لمكافحة إعادة البيع والخلط، موضحة انه سيتم صبغ البنزين باللون الأخضر، والديزل باللون الأحمر، منوهة الى انها ستلزم كافة الموردين بوضع الصبغتين على الوقود المخصص للقوات المسلحة الأوكرانية، حتى تتمكن من تتبع الوقود المخصص للجيش حركة وتوزيعاً. وكذلك ما كشفت عنه الهيئة الوطنية الأوكرانية لمكافحة الفساد في وقت سابق بعثورها على مبالغ مالية من دون قيود مسجلة تصل قيمتها 7 ملايين دولار بين رؤساء مكاتب التسجيل والتجنيد العسكرية.

والمسلم به ان الفساد ينمو ويزدهر في ظل الصراعات بين اجنحة السلطة، وهو ما يحول مؤسسات الدولة الى مجرد ادوات تستخدم كمدخلات في الصراع، ما يحول مسار المال العام من الخزينة العامة الى اوعية ايرادية تتبع المتصارعين، فينتج عنه شلل في المؤسسات ويعجل بانهيارها عند اول صدام، ليس بالضرورة ان يكون صداما عسكريا، وهذا يحصل في حالة السلم، اما في حالة الحرب فإن تنامي الفساد وتغوله يؤدي الى صراعات مصالح بين اجنحة السلطة، فكل جناح يرى خصمه وقد جمع اكبر قدر من المال؛ فيرد بالمثل من خلال المؤسسات التي تقع تحت سيطرته، فيؤدي ذلك الى صرف النظر عن الجبهات، وبالتالي تململ المقاتلين فتحصل انهيارات في الجبهات.

وفي الحالة الاوكرانية تشير التقارير الرسمية والصحفية إلى ان الفساد اصبح متغولا للغاية، حيث وصل حد بيع الاسلحة والمعدات والتجهيزات العسكرية في السوق السوداء، ما ادى الى نشاط تجارة تهريب الاسلحة، وهذه الحالة تعد سابقة للوصول حد ابرام صفقات تسليم الجبهات، والتي تعد رد فعل طبيعي لشعور المقاتلين بحالة غبن نتيجة عدم الاهتمام باحوالهم وتركهم يواجهون مصير الموت.

وبلا شك فإن مرور الوقت مع ضعف الاهتمام الغربي باوكرانيا لن يخدم النظام الاوكراني، لأن ذلك سيؤدي الى مزيد من الفساد كنتاج طبيعي لاستمرار الصراع بين القيادتين السياسية والعسكرية، والاخطر من ذلك هو حصول حالة خفض للصراع المسلح على الجبهات، لان الاسترخاء سيجعل القادة العسكريين يتجهون للبحث عن المكاسب التي تدرها عمليات الفساد التي صارت حالة سائدة في الجانبين العسكري والسياسي، ما سيؤدي الى عدم ايلاء الجانب القتالي الاهمية التي يستحقها.

ويرى مراقبون ان ما تسرب من خطة السلام الاوكرانية مؤشر على ان زلينسكي لن يكن رجل السلام الذي يريده الغرب، لأن النقاط المسربة لا تشجع على اقناع روسيا بالجلوس على طاولة التفاوض، كون الخطة الاوكرانية لا تتعاطى مع المخاوف الامنية الروسية، وبالتالي فإن شروط الجلوس على الطاولة ستملي اكثر مضامينها موسكو ليس على نظام زلينسكي وانما على داعميه الغربيين، باعتبارها صاحبة اليد الطولى في الميدان، وهو ما سيدفع الغرب لابرام صفقة مع روسيا تشمل ملفات ازمات اخرى في العالم، وهو ما سيؤدي الى جغل الغرب في امس الحاجة لقيادة اوكرانية تقبل بالتعاطي مع شروط الصفقة، ولا يستبعد تشدد روسيا في ازاحة زلينسكي ونظامه كشرط رئيسي لإتمام الصفقة.

الاتفاق على خطة سلام بين كييف وداعميها الغربيين لن يتم الا من خلال قمة بين قيادات الدول بناء على توصيات عسكرية واستخباراتية ودبلوماسية تأخذ مخاوف ومصالح تلك الدول بعين الاعتبار، وصولا الى قمة دولية تجمع داعمي كييف والقيادة الروسية للتفاوض حول شروط كل طرف، وهو ما يعني ان اجتماع مالطا الذي جاء في وقت غير ملائم ليس اكثر من سعي زيلينسكي لجس نبض حلفائه حول مستقبله ومحاولة التكهن بتوجهات الداعمين في ظل هيمنة الصراع في الشرق الأوسط على تفكيرهم، ويبدو ذلك واضحا من عدم توزيع قائمة رسمية بأسماء المشاركين في اجتماع مالطا، والاكتفاء بالقول ان المشاركين يمثلون دول من أوروبا وأمريكا الجنوبية ودول عربية وإفريقية وآسيوية.

ومما سبق يمكن القول ان عودة الاهتمام الغربي بالحرب الاوكرانية لن يتم قبل خفض التصعيد في الشرق الاوسط، وفي حال تواصل التصعيد هناك فإن الوقت يضعف نظام زلينسكي وجيشه ويعطي روسيا اوراق قوة في فرض شروط التفاوض المستقبلي، وربما وصولها إلى فرض امر واقع على الارض يغير المعادلة القائمة، وفي كل الاحوال فإن نظام زلينسكي لن يكون حاضرا في مستقبل اوكرانيا المنتظر.