أكتوبر 18, 2023 - 18:17
نوفمبر 11, 2023 - 04:40
المسجد العمري: أقدم مساجد غزة وأكثرها احتواء للتراث الإسلامي
المسجد العمري: أقدم مساجد غزة وأكثرها احتواء للتراث الإسلامي


أروى حنيش

في ظل النضال المستمر للمقاومة والشعب الفلسطيني من أجل الحرية، واسترجاع الأراضي المحتلة من الكيان الصهيوني، وعلى الرغم من الحروب المستمرة وآخرها القصف المسعور والهمجي للمحتل الإسرائيلي على أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزه بعد عملية طوفان الأقصى، التي سددت ضربة قاصمة في خاصرة العدو وزلزلت عروشه، زعزعت كيانه وفضحت هزالته ونقاط ضعفه. ولم تكن ردود أفعال العدو سوى أحد عوامل الجنون، والفشل وفقدان البصيرة لهذا الكيان المشتت التي تنخر الانقسامات والاضطرابات الداخلية السياسية بنيانه ووحدته المجتمعية.

غزة الجريحة الصامدة في هول هذا الدمار الوحشي، وعلى ترابها مسيرة نضال شعب فلسطين. وغزة تزخر بالمعالم الأثرية والتاريخية العريقة وثقافتها الغنية بالآداب والطراز المعماري القديم.

مسجد العمري

يعتبر المسجد العمري أقدم وأعرق مسجد في مدينة غزة، تم تشييده سنة 406م، وكان في السابق عبارة عن كنيسة بيزنطية، أنشأها أسقف غزة برفيريوس على نفقة الملكة أفذوكسيا.
وبعد الفتح الإسلامي لغزة، في القرن السابع الميلادي، تم تحويل هذه الكنيسة إلى مسجد في عهد الخليفة عمر بن الخطاب. تبلغ مساحة المسجد 4100 متر مربع، فيما وصلت مساحة فنائه إلى 1190 متراً مربعاً، وقد بني وسط مدينة غزة القديمة، بالقرب من السوق القديم.
أضيف إليه محراب ومنبر، واتخذ موضع الناقوس منارة، ثم فتح الباب الشمالي المعروف بباب التينة والنافذتان الشماليتان، وكذلك الباب القبلي.
يعكس المسجد جمال المعمار القديم الذي كانت تمتاز به مدينة غزة، والذي يعتمد على الرخام كمادة أساسية، وهي التي تم بها تزيين الأعمدة متينة البناء.
تم توسيع مسجد العمري الكبير من طرف الناصر محمد في العهد العثماني، إلا أنه تعرض لخراب كبير خلال الحرب العالمية الأولى، فقد سقطت مئذنته، وهدم القسم الأعظم منه.
تم تجديد المسجد سنة 1926 من طرف المجلس الإسلامي الأعلى، ليصبح أكثر جمالا. وداخل المسجد مكتبة كبيرة تحتوي مخطوطات تاريخية ونادرة، أقدمها يعود لسنة 920 هجرية، وعلى العديد من المراجع والكتب الدينية والإسلامية المختلفة.

الموقع

يقع المسجد وسط غزة القديمة بالقرب من السوق القديمة بحى الدرج، الذى كان يسمى سابقاً حي بني عامر نسبة لقبيلة بنى عامر العربية التى سكنته بداية الفتح الإسلامى.
يعد هذا الحى من أقدم الأماكن في قطاع غزة، وقبل أن يقوم هذا المسجد في هذا المكان كان هناك معبد وثنى ومع انتشار المسيحية تحول إلى كنيسة وألحق بالكنيسة صنف من الغرف الصغيرة لبيع الشموع والبخور.

سبب التسمية

ومع ظهور الإسلام ظلت الكنيسة مبنى مهجوراً لفترة، ثم تم إعماره وتحويله إلى مسجد، ليصبح أقدم وأكبر المساجد في غزة عندما فتحت المدينة أيام الخليفة عمر بن الخطاب، ولذلك سمى بالجامع العمرى الكبير بهذا الاسم نسبته لعمر بن الخطاب رضى الله عنه، وفى ظل وجود المسجد أصبحت تلك الغرف الصغيرة والتى كانت ملحقة بالكنيسة سوقاً للذهب، خاصة أن صناعة الذهب مهنة قديمة تدر دخلاً لآلاف الأسر الفلسطينية قبل الحصار الإسرائيلى.

من معبد روماني إلى مسجد

بدأت حكاية المسجد قبل آلاف السنين، فقد كان معبداً رومانياً عندما كان أهل غزة يعبدون الأوثان، وفي 407 ميلادية تحول أهل المدينة للمسيحية ليصبح كنيسة بيزنطية سُميت آنذاك باسم "أفدوكسيا".
ودُمرت هذه الكنيسة أثناء الغزو الفارسي لفلسطين سنة 614 ميلاديةً، وعند الفتح الإسلامي للمنطقة على يد القائد المسلم عمرو بن العاص، اعتنق معظم أهل غزة الإسلام وبُني الجامع على أنقاض الكنيسة البيزنطية .
وفي عام 1149 ميلادية أمر القائد الصليبي بلدوين الثالث بتدمير الجامع العمري وبناء كنيسة مكانه وسُميت بـ"كنيسة القديس يوحنا".

إعادة بناء الجامع

في عهد المماليك تمت إعادة بناء المسجد مرة أخرى، وأضاف السلطان المملوكي الظاهر بيبرس عليه مكتبة ضمت أكثر من 20 ألف مجلد ومخطوطة في مختلف العلوم.
وفي النصف الأخير من القرن الثامن عشر الميلادي وخلال العصر العثماني، قام الشيخ محمد كمال الدين البكري بإعادة بنائه، وإنشاء أكبر التوسعات والزيادات المعمارية بالإضافة إلى الأيونات الشمالية التي يتوسطها الصحن المكشوف وبلغت مساحته 1190 متراً مربعاً، كما أضيف في الإيوان الشرقي منبر ومحراب ودكة للجامع.
تعرض الجامع للدمار خلال الحرب العالمية الأولى، فأعاد المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى ترميمه سنة 1926.
وتدل الكتابات والنصوص المحفورة على أبواب وجدران الجامع على الترميمات والإضافات التي تم إدخالها للجامع على مر العصور الإسلامية. وكان آخر أعمال الترميم والصيانة للجامع في عام 2015 وشمل المئذنة وتطوير المنطقة المحيطة بالجامع.

معالم المسجد العمري

عندما تم تحويل المبنى من كاتدرائية إلى مسجد، استبدل معظم البناء الصليبي السابق تماماً، ولكن واجهة المسجد مع مدخله المقوس هو قطعة نموذجية من العمارة الصليبية للكنسية، والأعمدة داخل مجمع المسجد ما زالت تحتفظ بالطراز القوطي الإيطالي، كما حددت بعض الأعمدة كعناصر لمعبد يهودي قديم، وقد أعيد استخدامها كمواد بناء في الحقبة الصليبية. وما زالت تشكل جزءاً من المسجد اليوم، أما داخلياً، رسمت بعض الملصقات على أسطح الجدران، وقد استخدم الرخام للباب الغربي وكوة القبة، أما الأرضيات فهي مغطاة بالبلاط المزجج، كما أن الأعمدة الرخامية مبنية على نمط كورنثي.
ويوجد وسط صحن المسجد أربية مقببة تعود للحقبة الصليبية؛ وقد تم فصل العنابر عن بعضها البعض بواسطة أقواس مدببة عرضية مع بعض التشكيلات الجانبية مستطيلة الشكل، أما ممرات الصحن فهي تقع على قاعدة مرتفعة، وتم دعم ممرات الصحن بركائز أرصفة صليبية الشكل مع عمود من كل جانب، كما أن اثنين من ممرات المسجد الحالي أيضا أربية مقببة، كما يشير ابن بطوطة في مذكراته، أنه قد لاحظ بأن منبر الجامع العمري كان من الرخام الأبيض.
كما يوجد محراب صغير في المسجد مع نقش يعود تاريخه إلى عام 1663، ويحتوي على اسم والي غزة موسى باشا خلال الحكم العثماني، ولا يزال موجوداً حتى اليوم.

مكتبة الجامع العمري

أنشأ هذه المكتبة السلطان المملوكي الظاهر بيبرس البندقداري وعيّن عليها خيرة العلماء للعناية بها، وتذكر الكثير من المصادر أنّ المكتبة كانت تحوي أكثر من عشرين ألف كتاب ومخطوط في مختلف العلوم والفنون إلا أن هذه المكتبة تعرضت للسرقة والتدمير والعبث خصوصاً أثناء الغزو الصليبي، وأثناء الحملة الفرنسية على مصر وعلى غزة وعكا، والحرب العالمية الأولى، وانحصرت الآن في غرفة قريبة من الباب الغربي للمسجد، وهي تحتوي اليوم على 132 مخطوطة ما بين مصنف كبير ورسالة صغيرة، ويعود تاريخ أقدم نسخة مخطوطة إلى سنة 920هـ،
وتعتبر مكتبة الجامع العمري بغزة ثالث مكتبة في فلسطين بعد مكتبة المسجد الأقصى، ومكتبة مسجد أحمد باشا الجزار في عكا.

المئذنة

تعتبر المئذنة من أشهر معالم المسجد العمري، وهي نموذج من الطراز المعماري المملوكي في غزة، وهي على شكل مربع في النصف السفلي، ومثمنة في النصف العلوي منه، وشيدت المئذنة من الحجر من القاعدة إلى الأعلى، بما في ذلك النصف العلوي المتكون من أربع مستويات، أما قمة المئذنة فيتكون معظمها من الخشب والبلاط، وهي تماثل معظم المساجد في بلاد الشام.
وتقف المئذنة اليوم على ما كان نهاية الخليج الشرقي من الكنيسة الصليبية، وهي ثلاثة حنيات نصف دائرية تحولت إلى القاعدة للمئذنة.
وهكذا يظل المسجد العمري شاهدا حضاريا على عمق التراث الإسلامي، وفنون بناء العمارة الإسلامية الأصيلة، وتؤكد في مضمونها على تعلق المسلم بتراثه وثقافته الدينية الإسلامية وعلى قيمها الحميدة في بناء الإنسان المؤمن القوي الذي تبدو عليه اليوم حالة الثبات والصمود في مقاومة الاحتلال والدفاع عن أرضه حتى نيل الاستقلال .