أكتوبر 3, 2023 - 19:15
رامبو التاجر.. الشاعر
عرب جورنال

خالد الأشموري
لقد أسلم رامبو الروح في المستشفى في مارسيليا في 10/11/1891م في تمام الساعة العاشرة من صباح يوم الثلاثاء ولم يكن تجاوز السابعة والثلاثين من عمره.
كان عاد من عدن والحبشة حيث كان يتاجر، إلى مرسيليا مصاباً بسرطان العظم أو الزهري أو التهاب للغشاء المصلي لركبته.. لم يكن رامبو مدة مرضه المضنية مؤمناً كان يجدف، لكنه في أيامه الأخيرة، أخذ يستغيث بالمسيح ويصلي، وكان يكرر أحياناً بالعربية عبارة " الله كريم " و " عسى أن يتم الله إرادته " وذلك من خلال يقظة روح دينية مفاجئة إسلامية ومسيحية.
كان من اللافت أنه، عشية وفاته وفي الأيام التالية عليها، لم ينشر ولو خبر صغير في الصحف عن هذه الوفاة، لكن ظهر بعد عشرات السنين عنه في جريدة " رسول الأردين" مقال بقلم ل، ب، أي ( لويس بيركون) وقد أورد بيركون له بعد المقال قصيدتين هما " المنذهلون" و" قرفصاءات".
لكن رامبو الشاعر كان لا بد له من أن يولد من جديد كان لا بد للمارد المحصور من أن ينطلق من القمقم ، وقد حصل ذلك حين قام فيرلين في أواخر العام 1895م وبعد حصوله على موافقة خطية من إيزابيل بنشر الأشعار الكاملة لأرتور رامبو، مع مقدمة لها وكانت تضم دواوين " المركب السكران" و" فصل في الجحيم " و " إشراقات " والحقيقة أن رامبو كان في حياته الشعرية والمتمثلة في النصف الأول من حياته القصيرة، يرفض نشر شعره أو يميل إلى عدم نشره على الرغم من إلحاح كل من فيرلين وتيودور دي بانفيل عليه في نشرها.
كان نشر له " فصل في الجحيم " في بروكسل العام 1869م ، واندثرت نسخة أو أتلفت ، ولعله كان لرامبو نفسه دور في إتلافها.
وعلمت أخته إيزابيل إن ديوان " إشراقات " ربما يكون قد نشر العام 1886م ، إلا أن نسخة أيضاً لم تكن متوافرة.
لكن ما بقي بصورة موثقة في شعره، هو ما سبق وأثبته له الشاعر بول فيرلين في كتابه " الشعراء الملعونون" كان ثلث هذا العمل مخصصاً لرامبو ، ويحتوي على قصيدة " المنذهلون " وقصيدة " قرفصاءات " وما كان بحوزة فيرلين من قصائد احتفظ بها.
منذ دفن رامبو في 11/11/1891م وكرة سيرته الذاتية وأشعاره تتدحرج وتتضخم في منحدرات فرنسا والعالم فهو اليوم واحد من بين خمسة من شعراء فرنسا الأكثر أهمية في بلاده ولعله من الشعراء الأكثر أهمية وجاذبية في العالم، فقد ترجم إلى جميع اللغات الحية، وكتب حول سيرته وأشعاره حوالي ثلاثمائة كتاب، وهو شاعر تعرفه العربية معرفة وافية، كما تعرفه اللغات الأخرى، وله مريدون كثر، من أكثرهم أهمية الروائي الأمريكي المعروف " هنري ميلر" الذي تقمص شخصيته ومزاجه وغرائب ترحاله.
استعادة رامبو:
وآرتور رامبو يستعاد في فرنسا والعالم، بعد موته في نهايات القرن التاسع عشر ، حتى اليوم ، مئات بل آلاف المرات، من خلال الأبحاث والدراسات التي تؤلف حول سيرته وشعره، ومن خلال ترجمته إلى جميع لغات العالم الحية.. ولكن أهم ما يستحضر رامبو ويجعله شاعراً حاضراً ومستقبلياً، تلك الجذوة العجيبة التي بثتها نصوصه ومغامراته في روح الشعر، وهي جذوة من أنخطاف ورؤيا صوفية استشراقية، عن طريق طمس الحواس حتى بالمخدر، ورغبة في الكشف والمغامرة، من غير حدود، وهو القائل في كتابه " رسالة الرائي" كن " رائياً" عليك أن تكون رائياً".
وإن أهم كتاب شامل صدر عن سيرة الشاعر وعدد من وثائق ورسائل كانت مطوية تم العثور عليها ونشرت في هذا الكتاب، مصورة كوثيقة من وثائقه، هو كتاب الكاتب والناقد الفرنسي بيير بتفيز.
لقد رسم بتفيز صورة كثيرة التفاصيل لواحد من أكثر شعراء فرنسا بل من أكثر شعراء العالم غموضاً وغرابة وجاذبية ولملم عناصر هذه الصورة وهذه السيرة من مكونات وهوامش وخطوط وخيوط متناثرة ومتنافرة، عثر عليها في المتاحف، وفي حوزة بعض أصدقاء هذا الشاعر مما تركوه لورثتهم، ومن خلال مؤلفات ألفت حوله، وأبرزها الرسائل التي كان يتبادلها مع والدته وأخته إيزابيل بشكل خاص، ومع بعض أصدقاء الدراسة من أمثال دلا هاي وإيزامبار، وتلك التي تبادلها مع الشاعر البرناسي بول فيرلين، الذي أرتبط به بعلاقة مثلية خاصة، فضلاً عما ترك في فرنسا والبلاد الأوربية التي تجول فيها متصعلكاً أو متاجراً، من فواتير وكتابات واستمارات وما تركه من معاملات وفواتير ووثائق في البلاد التي تنقل فيها ، إما متشرداً متصعلكاً أو عاملاً أو تاجراً من قبرص إلى مصر إلى عدن فهرر في بلاد الحبشة.
يضاف لذلك ما نشر من كتبه وأشعاره خلسة ومن دون إرادته خلال حياته القصيرة، أو ما جمع منها وأعيد نشره بعد موته.
هذه على العموم، هي مراجع بنفيز في كتابه سيرة دقيقة مفصلة ومتقصية للشاعر الملعون والشاعر المقدس أرتور رامبو.
وغالباً ما نشر حول رامبو أساطير كثيرة وتدخل الخيال في تدوين سيرته هذه السيرة الغامضة والمطموسة الشاذة المتشردة البوهيمية وكانت أشعاره كحياته جارحة جذرية وقحة مغامرة.
الصعود إلى النبع:
بحركة تشبه الصعود إلى النبع، او الرجوع إليه قام بتفيز باستعادة رامبو كاملاً فقد صور هذا المؤلف 37 عاماً من حياة رامبو الشاعر والإنسان والشاعر والمغامر والتاجر وتتبعها خطوة خطوة .. وجاء جهد لا حق على التأليف هو جهد عربي فرنسي مشترك ليكون تتويجاً لجهد بتفيز فقد تم افتتاح " دار رامبو في عدن ، التي عاش فيها الشاعر تاجراً لمدة عشر سنوات وكأنه يعيش في فوهة بركان واهتمت الملحقية الثقافية في صنعاء بنشر كتاب عن رامبو ساهم فيه ، إضافة إلى مترجم كتاب بتفيز إلى العربية د حسين مجيد، كل من " فرانك ميريميه" مدير المركز الفرنسي للدراسات اليمنية بصنعاء، وجان منسلون مدير قسم اللغة الفرنسية في جامعة صنعاء، وجيرار مارتن مدير المركز الثقافي الفرنسي بعدن ، وقدم للكتاب ليلفان فور كاسيه المستشار الثقافي لدى سفارة فرنسا بصنعاء والجهد كان متوجهاً لاستخراج رامبو الحقيقي من ركام الأشباه والأمثال.
فرامبو من خلال السيرة ومن خلال دراسته الأولى في شارلفيل، يظهر أنه تلميذ متفوق بل فذ وخاص هو الأول في التربية الدينية وفي الخطابة الكلاسيكية في المدرسة وقال فيه معلمه ذات يوم للمدير " إنه ذكي".
وبالعودة إلى التقاط ذكريات عنه من أترابه في المدرسة، ممن بقوا على قيد الحياة يظهر رامبو بمنزله عبقري صغير، ملاك بوجه مستدير ونظرة حزينة في عينيه الزرقاوين، وشعره المنسدل على جبهته وكأنه ملصوق بماء الورد.. وصورة الفوتوغرافية المتبقية في تلك المرحلة تظهره بهذه الأوصاف، بل لعلها وصف لإحدى صوره الفوتوغرافية الباقية كما رآها بول كلوديل.
وبدأت مظاهر العزلة تظهر عليه منذ الرابعة عشر ثمة فصول عجيبة يرويها المؤلف عن تفاصيل حياة رامبو وكأنه عاش معه لحظة بلحظة .. حتى أنه يصف كيف كان يحمل مظلته وكيف كسرها أحدهم ذات يوم.
حسناً.. تمضي حياة رامبو في شارلفيل هكذا مع أمه وأخيه الأكبر وشقيقتيه فيتالي وإيزابيل ويرصد ما كتب من أشعار أولى باللاتينية وما بقي منها مكتوباً بخطة على دفاتره المدرسية كل ذلك قبل اتصاله بجماعة الشعراء البرناسيين في باريس ، وانضمامه إليهم بدعوة وتشجيع من الشاعر بول فيرلين – الذي ستكون له صلة شاذة به .. وسيرة متوترة ومثيرة .. في شارلفيل كانت حياته محدودة بين عائلته ومدرسته وبعض أصدقائه .
سيبرز فيما بعد اسم كل من دلاهاي وإيزامبار كاثنين من أبرز أصدقائه الذين تمت بينه وبينهم مراسلات عدة.
وكان دلاهاي وإيزمبار من مدرسية وأصدقائه في وقت واحد .. يعرض عليهما ما يكتب ويرجوهما أن يقرآه، على ما ذكر إيزامبار بتاريخ 11/12/1948م.
أولى قصائده المدوية كتبها في شارلفيل يقول فيها: " عقلنا الشاحب يخفي المطلق عنا " كان في السابعة عشرة يومذاك أرسلها إلى ثيودور دو بانفيل سيد المدرسة البارناسية في باريس، راغباً إليه في نشرها في مجلة " البرناسي المعاصر" متضرعاً إليه في رسالته " أنا شاب أرفعني قليلاً.. مد لي يد المساعدة".
في شارلفيل ظهرت عليه علامات اللعنة والتمرد ضد رجال الدين وطقوس المجتمع وظهرت آثار هذا التمرد في قصيدته " فصل في الجحيم" وحين ذهب إلى باريس أهتم بالكومونة، ولكنه كان شغوفاً بالرحيل والتشرد فمضى إلى بلجيكا حيث كتب قصائد مدمرة كتب ذات مرة " بعض الدمار ضروري" وكان يصبوا لاختفاء المؤسسات الاجتماعية.
لقد ظهرت طاقة رامبو الشيطانية التدميرية .. إثر لقائه ببول فيرلين.. ثم غاب عن الشعر نهائياً ليدخل في الرحيل والتجارة..
وكان رامبو قد كتب في إحدى رسائله إلى أهله مؤرخة في 5/5/1984م " عرفت منذ زمن بعيد أني لن أعيش حياة أشقى من حياتي هذه".
• من مقال أدبي للشاعر اللبناني ( محمد علي شمس الدين).