خالد الأشموري
لو تأملت في جسمك لعرفت أنك عبارة عن بلايين من الخلايا الحية فالأنف والأذن والذراع والقلب وكل أعضاء الجسم الأخرى ماهي إلا مجموعة من الخلايا المتشابهة التي اصطفت سوياً واتفقت على أن تكون عضواً معيناً بأنسجة معينة لتقوم بوظيفة معينة وهذا التجمع الخلوي والنسيجي لتكوين عضو معين يتم في مرحلة مبكرة أثناء وجودنا في رحم أمهاتنا لنولد أطفالاً بأجهزة قابلة للعمل بكفاءة عالية حتى مرحلة الشيخوخة في ظل الظروف البيئية والنفسية الطبيعية, وأي تغيير في الظروف المحيطة بالإنسان سواء في مرحلة نموه مبكراً في رحم أمه أو طفولته أو ما بعد ذلك يؤثر بدرجة كبيرة في وظائف بعض الخلايا والخلايا الورمية أما أن تنشى من خلايا ساكنة مثل خلايا المريء والمعدة والأمعاء والمخ والكبد أو خلايا متحركة تجول في الجسم مثل الخلايا الدموية والورم الذي ينشأ من الخلايا الساكنة يبقى مكانه ويحاط معزولا عن الخلايا المجاورة بعازل ليفي .
ويستطرد الدكتورـ محمد لبيب سالم الاستاذ المساعد بالجامعة الامريكية ـ كارولينا - صاحب المقال بقوله : لاشك أن هذا النوع من الأورام التي تنشأ في أماكن أخرى , حيث تتكاثر مرة أخرى هناك مسببة خللا وظيفيا كبيراً يسمى هذا النوع من الأورام " الورم الخبيث" وذلك للخبث الشديد الذي تتصف به الخلايا , حيث تبتكر طرقاً متطورة تمكنها من الهجرة والانتشار في جميع أجزاء الجسم خاصة الكبد ونخاع العظم هذا بالنسبة للأورام الحميدة والخبيثة التي تنشأ من الخلايا الساكنة التي لا تتحرك من مكانها أما الأورام التي تنشأ من الخلايا "المناعية " المتحركة في الدم فهي ليست بحاجة لخبث كبير حيث إنها بطبيعة وظيفتها وتكوينها متحركة لا تبقى في مكان بل تجول في الجسم بطوله وعرضه حتى قبل أن تكون مسرطنة وحيث إن وظيفة هذا النوع من الخلايا "المناعية " هي مهاجمة الفيروسات والبكتيريا قتلها, فتسرطن هذه الخلايا لا يجعلها قادرة على القيام بهذه الوظائف مما يجعل المريض أكثر عرضة للإصابة بالميكروبات .
زراعة الدم
ومن أنجع الطرق العلاجية للأمراض عموماً العلاج المناعي المبني على تنشيط الجهاز المناعي لمهاجمة وقتل الأجسام الغريبة والميكروبات ونظراً لأن الخلايا الورمية هي في الأصل خلايا طبيعية فهي لا تعتبر خلايا غريبة في جسم المريض.
ولذلك, فعلى عكس الميكروبات والتي يمكن التطعيم ضدها حيث إنها أجسام غريبة عن الجسم, فمن الصعوبة التطعيم ضد الورم ومع أن هناك محاولات جادة من فرق بحثية مختلفة لإيجاد طرق علاجية مناعية للأورام فإن العلاج المتوفر حالياً هو العلاج الكيميائي أو الإشعاعي أو كلاهما معاً لجميع الأورام سواء التي تنشأ من الخلايا الساكنة أو الخلايا الليمفاوية "المناعية " في الدم وعلى عكس العلاج المناعي الذي يقوم بمهاجمة الجسم الغريب فقط دون المساس بخلايا الجسم الطبيعية فإن العلاج الكيمائي أو الإشعاعي لا يفرق بين الخلايا الورمية والسليمة فالمواد الكيميائية تقوم بقتل الخلايا الورمية ولكن في الوقت نفسه تؤثر على الخلايا السليمة بقتل جزء كبير منها وخاصة الخلايا المناعية في الدم فيصبح المريض أكثر عرضة للإصابة بالميكروبات .
وللتغلب على أعراض العلاج الكيميائي والإشعاعي فإنه يتم زراعة خلايا مأخوذة من نخاع العظم من متطوعين إلى دم المريض لتعوضه النقص الشديد في عدد الخلايا المناعية المصاحب للعلا ج الكيميائي والإشعاعي .
والمصطلح العلمي الدقيق لزراعة نخاع العظم والمستخدم حالياً في الأوساط العلمية هو "زراعة الخلايا الدموية الناشئة" وذلك لاستطاعة العلماء في السنوات الأخيرة الحصول على الخلايا الناشئة " ذات القدرة على التميّز إلى الخلايا المناعية المتنوعة ـ ليس فقط من نخاع العظام بل من الدم ونخاع العظم هو مادة إسفنجية داخل العظم حيث يمثل المكان الرئيسي للخلايا الدموية الناشئة.
فنخاع العظم هو مجموعة من الخلايا الدموية موجودة بين العظام ولها قدرة عالية على التكاثر والنمو لإعطاء خلايا مناعية متنوعة جديدة والتي تعتبر هي الخلايا الناشئة التي تعطي ثلاثة أنواع من خلايا الدم وهي كرات الدم الحمراء " المسئولة عن حمل الأكسجين " وكرات الدم البيضاء " التي تحمي الجسم من الميكروبات " والصفائح الدموية "المسئولة عن تجلط الدم لوقف النزيف ".. وكما ذكرت سابقاً فإن الجرعات العالية من العلاج الكيميائي أو الإشعاعي, مع أنها مفيدة لقتل الخلايا الورمية, فإنها تحطم أيضاً جزءاً كبيراً من الخلايا السليمة وخاصة الخلايا الناشئة في نخاع العظم ولذلك فإن زراعة النخاع للمريض تنقذه وبدرجة كبيرة من التأثير الضار للعلاج الكيميائي أو الإشعاعي وخلايا نخاع العظم الناشئة هذه قد تأتي من شخص متطوع ويسمى هذا النوع "الزرع المتباين " نظراً لتباين أنسجة المعطي والمستقبل "المريض" وعادة ما يكون المتطوع من أفراد عائلة المريض لتزايد فرص المشابهة بين الخلايا المنقولة وخلايا المريض حتى لا يتم رفض كلي , والنوع الآخر من زراعة النخاع يسمى "الزرع الذاتي " وهو استخدام نخاع عظم المريض نفسه وذلك بجمعها من نخاعه قبل أن يتم علاجه كيميائياً أو إشعاعياً.
زراعة الأعشاب
وقد بدأ التفكير في عملية زراعة نخاع العظم لمرض "السرطان " أثناء الحرب العالمية الثانية حيث قام العلماء الأمريكان بأول محاولة لزراعة نخاع العظم "المتباين " وذلك لغرض شفاء مرض السرطان .
وقد أدى إلقاء القنبلة النووية على مدينتي نجازاكي وهيروشيما باليابان أثناء الحرب العالمية الثانية إلى تحفيز العلماء على استخدام زراعة النخاع للمرضى الذين تعرضوا للإشعاع في هذا الوقت وفي عام 1957م قام الدكتور دونال ثوماس وفريقه البحثي في مستشفى ماري أموجين في نيويورك بأول محاولة ناجحة لزراعة نخاع العظم من متطوعين إلى مريض كان مصاباً باللوكيميا " سرطان الدم " حيث قد تعرض هذا المريض إلى جرعة عالية من الإشعاع لقتل خلايا اللوكيميا قبل عملية زراعة النخاع وقد كان المتطوع توأم المريض وذلك لضمان التوافق النسيجي بين المتطوع والمريض ,حيث لم يكن معروفاً في هذا الوقت تكنيك " التوافق النسيجي " والذي يستخدم بطريقة روتينية حالياً قبل نقل الدم أو الأنسجة الأخرى من متطوع إلى مريض .
وبالرغم من نجاح العملية فإن المريض لم يعش طويلاً نتيجة للمشاكل الصحية الجانبية من جراء الإشعاع الكامل لجسم المريض وما صاحبه من نزيف والإصابة بالميكروبات المخلفة وبعد مرور عام من محاولة زراعة نخاع العظم المتباين هذه فقد تم إجراء محاولة أخرى ولكن باستخدام نخاع عظم المريض ذاته فقد تم الحصول على نخاع المريض قبل العلاج الكيميائي وحفظ النخاع بتجميده حتى يتم نقله للمريض مرة أخرى وفي البداية كانت عملية تجميع نخاع العظم تتم بطريقة جراحية حيث يتم تخدير المتطوع أو المريض ثم وضع إبرة كبيرة في فخذه ثم شفط النخاع من العظم القريب ونقله إلى المريض عن طريق الدم.
وفي منتصف الثمانينات تم تعديل عملية تجميع نخاع العظم بطريقة جراحية وذلك بعد اكتشاف المواد المنشطة وهي مواد يفزرها الجسم بصورة طبيعية لتساعد على نمو وتكاثر الخلايا الناشئة في نخاع العظم لتعطي أعداداً كبيرة من الخلايا الدموية المختلفة ومن أمثلة هذه المواد المستخدمة حالياً لهذا الغرض "نيوبوجين أو فيلجراستم، نيولاستا ومادة الليوكين.
وقد سهل اكتشاف هذه المواد مهمة الحصول على الخلايا الناشئة من الدم ويتم ذلك بحقن المواد المنشطة في المريض ثم جمع الدم والذي في هذه الحالة يحتوي على عدد هائل من الخلايا الناشئة التي تم تكوينها في النخاع وهجرتها للدم تحت تأثير هذه المواد وهنا يتم فقط توصيل دم المريض أو المتطوع بجهاز يستطيع لقط الخلايا الناشئة من الدم فقط وبذلك لا حاجة للتخدير أو المصاحبة لجمع النخاع بالطريقة القديمة وعادة ما يتم إجراء هذه العملية دون حجز المريض ونظراً لأهمية الخلايا الناشئة هذه فقط نال د. ثوماس جائزة نوبل في الطب تقديراً لأبحاثه في هذه المجال والتي بني عليها هذا النوع من العلاج كالتالي:.
1ـ تحديد ما إذا كان المريض يحتاج إلى زراعة نخاع ذاتي "أي من نخاع المريض نفسه" أو من متطوع .
2ـ الحصول على الخلايا الناشئة من نخاع العظم أو الدم فلو تم أخذ الخلايا من المريض ذاته ففي هذه الحالة يتم تجميدها وحفظها لحين استخدامها في وقت لاحق
ولكن إذا كان مصدر الخلايا الناشئة من متطوع فعادة ما يتم نقلها للمريض بعد تحضيرها مباشرة دون الحاجة إلى تجميدها وتخزينها.
3ـ معالجة المريض بجرعة عالية من المواد الكيميائية أو الإشعاعية حتى يتم قتل معظم الخلايا الورمية بالدم والنخاع وتسمى هذه العملية بالتحضير وعادة ما تأخذ 3-7 أيام حسب العلاج الكيميائي أو الإشعاعي.
4ـ نقل الخلايا الناشئة إلى دم المريض عند طريق وضعها في أنبوب متصل بدم الوريد فتهاجر الخلايا في جسم المريض وتصل لنخاع العظم حيث تجد مكاناً مهياً ومساحة كبيرة للتكاثر والنمو والتميز لجميع الخلايا المناعية وتسمى هذه المرحلة زراعة الخلايا: ونستطيع ان نشبه عملية زراعة الخلايا الناشئة للمريض هنا بأنها تماماً كأنك تريد أن تنبت بذرة لأعشاب نافعة في أرض مليئة بأعشاب ضارة فالبذرة هي الخلايا الناشئة والأعشاب الضارة هي الخلايا السرطانية والأرض هي نخاع العظم فما عليك إلا أن تزيل الأعشاب الضارة كيمائياً ثم تلقي ببذور الأعشاب النافعة في الأرض ثم ترويها بالماء والغذاء "المواد المنشطة للجهاز المناعي" ثم نتركها لمدة 7- 10أيام حتى تنمو وتملأ الأرض لتحل محل الأعشاب الضارة.
ويستطرد الدكتور لبيب مضيفاً: لقد كان من المتعارف عليه حتى وقت قريب عزل المريض أثناء عملية زرع الخلايا الناشئة نظراً لضعف الجهاز المناعي ويجب أن ننوه هنا بأن زرع الخلايا الناشئة غالباً ما يؤدي إلى نتائج علاجية إذا كان المريض صغير السن أما في حالة مرضى السرطان المتقدمين في السن فهذا النوع من العلاج لا يأتي بنتيجة كبيرة حيث إن الجهاز المناعي للمريض لا يسمح بالعلاج الكيماوي بجرعات عالية والتي تسبق عملية زرع الخلايا ولذلك فهؤلاء المرضى يتم علاجهم بما يسمى الزرع البسيط حيث يتم حقنهم بجرعات أقل من المواد الكيمائية ولكن مرضى الليمفوما واللوكيميا عادة ما يتم علاجهم بطريق الزرع الذاتي وإلى جانب علاج الأورام الناشئة من الدم بزراعة نخاع العظم إلا أن بعض المحاولات قد تمت لمحاولة علاج الأورام الساكنة مثل سرطان المبيض إلا انها لم تعط أي تأثير يذكر: ونستطيع القول إن من بين مرضى السرطان المحتاجين لزراعة خلايا نخاع العظم فإن مريضاً من كل ثلاثة يمكن إيجاد متبرع من عائلته ولأن الاتجاه الحالي لمعظم الأسر هو التنظيم الأسري فبوجود طفل أو طفلين في الأسرة فإن عملية الزرع غير الذاتي أصبحت أصعب مما كان من قبل ,حيث إنها تعتمد على نقل الخلايا من أولاد المريض إليه وقد أدى هذا إلى زيادة الطلب على زراعة الخلايا من متبرعين من غير إفراد العائلة وهو ما يؤدي إلى مشاكل صحية للمريض في ما بعد النقل فكلما كانت نسبة التوافق بين المريض والمعطي عالية كانت فرصة نجاح العلاج عالية ونسبة التوافق هذه يتم تحديدها باختبار بسيط يتم فيه مقارنة مدى تشابه البروتينات الموجودة على سطح الخلايا الدموية في كل من المعطي والمريض وللتغلب على صعوبة إيجاد معطي سواء من أفراد عائلة المريض أو خارجها فقد تم إنشاء برنامج في أمريكا يسمى "البرنامج القومي للتبرع بالنخاع "حيث يتم جمع وحفظ النخاع من المتبرعين وتدوين جميع المعلومات بحيث تكون جاهزة عند أي عملية زرع خلايا للمرضى وعادة ما يتم أخذ موافقة المتبرع قبل أخذ الخلايا منه وهذه الشبكة متاحة لجميع المراكز التي يتم فيها زراعة الخلايا وقد سهل هذا البرنامج كثيراً عملية زرع الخلايا وأدى إلى تقليل مشاكل ما بعد عملية الزرع الخلوي غير الذاتي .
ويذكر الدكتور لبيب مؤكداً: أن معظم عمليات الزرع الخلوي تعتمد على النقل غير الذاتي , حيث يتم زراعة خلايا غريبة نوعاً ما إلى المريض فتقابل هناك خلاياه المختلفة ,وهنا يحدث عراك بين الخلايا المزروعة وخلايا المريض وتتوقف شدة هذا العراك على نسبة التوافق النسيجي بين الخلايا المزروعة وخلايا المرضي .. فكلما كانت نسبة التوافق عالية كان العراك أقل والعكس صحيح , ولأن خلايا المريض ضعيفة نظراً لكونها تحت تأثير العلاج الكيماوي المثبط فإن الخلايا المزروعة تكون أكثر قوة مما يجعلها تتغلب على نسبة كبيرة من خلايا الجسم في الجلد, الكبد الرئتين والأمعاء وأعضاء أخرى مما يؤدي إلى خلل كبير في وظائف المريض وتسمى هذه الأعراض بمرض ـ graft أي مهاجمة خلايا المريض بخلايا المعطي وعادة ما تظهر أعراض هذا المرض في المرضى كبار السن ويمكن تشبيه هذه العملية بزراعة جيش كامل في أرض غريبة ضعيفة حيث تقوم القوات المنقولة بتطهير المكان الجديد حتي يطيب لها المكان ومع الأسف فإن ذلك يأخذ بعضاً من الوقت على حساب صحة المريض ,ومع ذلك فإن عدداً كبيراً من الخلايا الورمية في جسم المريض يتم قتلها أيضا أثناء عملية التطهير هذه وهذا في مصلحة المريض ولذلك فالزرع غير الذاتي للخلايا الناشئة هو سلاح ذو حدين حد مسلط على رقبة المريض نتيجة لمهاجمة خلاياه السليمة وحد مسلط على الخلايا الورمية في جسم المريض ولذلك جرت المحاولات لتثبيط الحد الاول المسلط على رقبة المريض وترك الحد الآخر ليقتل الخلايا الورمية ويتم ذلك بحقن المريض ببعض المواد المثبطة مباشرة بعد عملية الزرع مما يؤدي إلى تثبيط قدرة الخلايا المنقولة بدرجة لا تؤثر في الخلايا السليمة في المريض بل تبقى على قدرتها على قتل الخلايا الورمية .